رأي
بروفسور محمد بابكر ابراهيم يكتب: الشريف حسين الهندي .. الرئيس الذي لم يحكم ..
الشريف حسين الهندي .. الرئيس الذي لم يحكم ..
بقلم : بروفسور محمد بابكر ابراهيم
كثيرون هم الذين أحبوا هذا الوطن الغالي وساهموا في تجرد ونكران ذات في خدمته وبنائه وماتوا وهم شهداء الواجب من اجله .. وفي سبيله … ولكن تفرد عنهم الشريف حسين الهندي الذي أحبته اغلبية الجماهير السودانية نسبة لتفانيه واستماتته في الدفاع عن القضية الوطنية… لقد كانت نظرته الوطنية نظرة شاملة تخطت نطاق الحزبية الضيقة … واستصحب فيها كل أهل السودان بأحزابهم وأعراقهم وجهوياتهم … وسعي لوحدتهم عبر تكوين الجبهة الوطنية .. مطبقا بمهنية فذة مبدأ الوطن أولا… والوطن فوق الجميع ومارس بذلك قواعد العدالة الاجتماعية والمساواة بين افراد المجتمع.
لقد كان الشريف رجلا قويا ذو كاريزما طاغية وإنسانا يملأ جوانحه حب الوطن واهله … وكان يتمتع برؤية ثاقبة في كيفية بناء الوطن والحفاظ عليه … حيث كان الوطن بانسانه وحدوده الجغرافية يعني الكثير بالنسبة له … ولذا كان حرصه الشديد على مشاركة جميع اهل الوطن في المسألة الوطنية… وعملية البناء والتنمية … كان يؤمن ايمانا قويا بأن قوتنا في وحدتنا … ولذا كان حرصه الدائم والسهر علي تلبية متطلبات انسان الوطن حتي يعيش المواطن معززا مكرما في وطنه … وذلك ضمانا لأمن البلد وسلامته ونهضته … لقد كانت تلك المبادئ من أعلى المبادئ والقيم التي حرص الشريف حسين على تطبيقها بجد وإخلاص … وافني فيها زهرة شبابه وطاقته وجهده وفكره وماله… ولقد ورثنا نحن أبناء وتلاميذ الشهيد الشريف حسين الهندي وزعيم الامة السيد اسماعيل الأزهري في الحزب الاتحادي الديمقراطي … هذا المبدأ الاصيل من مبادئ الحزب الاتحادي .. حزب الحركة الوطنية .. بأن هم الوطن.. فوق كل هم بما في ذلك الهم الحزبي.
عرفه الكثيرون بانه معارض شرس لنظام جعفر نميري … ولكن الكثيرين لم يلموا باسس ورؤي وعبقرية هذا الإنسان الفذ في التخطيط والبناء والذي سبق بهما أبناء جيله عالميا ومحليا… فلقد كان الشريف رجل دولة من الطراز الاول… لقد بني دولة وهو في المنفى أقوى من نظام جعفر نميري.. ولو قدر لهذه الدولة ان تحكم لكان السودان اليوم من ضمن دول العالم الأكثر قوة وثراءا… لقد اهتم بالعمل علي تحقيق كل مقومات الدولة الناجحة داخليا وخارجيا … ومن ثم خطط لقيام دولة سودانية قويه وغنية عن طريق ثلاث محاور استعدادا لتطبيقها على أرض الواقع بعد زوال حكم نميري … وهي العمل على وحدة وتماسك الجبهة الداخلية وتطوير وبناء الدولة عن طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة وخلق علاقات خارجية مع الأشقاء والأصدقاء وفقا للمصالح المشتركة … وعمل لها بكل جد وإخلاص ولكن شاءت ارادة الله أن يرحل قبل تطبيق حلمه هذا.
أولا : عمل على وحدة وتقوية الجبهة الداخلية وتماسك النسيج الاجتماعي السوداني عبر تكوين الجبهة الوطنية التي تضم كل الأحزاب والاعراق والجهويات ضمانا لوحدة الوطن وقوته وامنه وسلامه … نعم لقد كان الغرض من تكوينها على المدى القريب هو توحيد المعارضة السودانية لاسقاط نظام جعفرنميري.. ولكن كان الهدف على المدى البعيد هو خلق وحدة وتجانس بين أبناء الوطن في وقت الشدة لكي يعملوا متضامنين مع بعضهم البعض وقت الرخاء… دفعا للتنمية والنهوض بالبلد… وفيها تعامل مع الجميع بمبدأ المساواة التي لم يفرق فيها بين أفرادها مع اختلاف مشاربهم وميولهم الحزبية… وبالتالي وضع الأساس المتين لمبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات … وهذا مبدأ مهم جدا في تطبيق وممارسة الديمقراطية التي سعي لها الشريف حسين وطبقها في أسمي معانيها حتى يتم العمل بها في فترة ما بعد زوال حكم نميري … وأنعكس كل ذلك في الاعجاب والحب الذي يكنه له كل من عمل معه من منتمي الأحزاب الأخرى ونعته في أحاديثهم بأجزل عبارات الثناء في شتي المناسبات.
ثانيا: اما من الناحية الاقتصادية والتي هي بالضرورة مربوطة بالناحية السياسية … فقد أظهر الشريف حسين فكرا وعبقرية لم يسبقه عليها احد في العالم ..فقد طبق ونجح في تطبيق أسس التنمية المستدامة من قبل أن يعرفها العالم بعقدين من الزمان … وهي التنمية التي تعتمد الدول في تطبيقها على الاعتماد على النفس واستثمار الموارد البشرية والطبيعية المحلية لخدمة الوطن والمواطنين … ففي بداية ستينيات القرن الماضي بدأ العالم المتقدم في تقديم الدعم الاقتصادي والتقني السخي للدول النامية للارتقاء بها اقتصاديا حتى تلحق بركب الدول المتقدمة وهذا ما سمي بنظرية التنمية او الحداثة .. ولكن عند تقييم هذا الجهد في نهاية عقد الستينيات كانت النتيجة مخيبة للامال وغير متوقعة بعد دفق هذا الكم الهائل من الدعم المادي والفني والتكنولوجي … حيث فشلت كل هذه الجهود في تحقيق التنمية والتقدم المنشود لاغلبية الدول النامية…
وتجلت عبقرية الشريف حسين في أنه قد تخطي هذا الفشل الذي شاب نظرية التنمية او الحداثة … واستحدث نظرية جديدة هي نظرية التنمية المستدامة … وكان السودان هو الاستثناء حيث نجح الشريف في تطبيق النظريتين معا نجاحا باهرا … الأمر الذي دعا روبرت ما كنمارا مدير البنك الدولي في ذلك الزمان أن يكتب في مذكراته بانه لم يعجب بشخص في الدول النامية مثل إعجابه وانبهاره بشريف السودان … وكان يقصد بذلك الشريف حسين الذي كان وزيرا للمالية والذي كان يحضر اجتماعات البنك الدولي الدورية … ولقد كان له فيها حضورا حيّا وطاغيا.
وما فعله الشريف حسين في هذا الصدد .. هو استجابته لمطالب قطاعات واسعة من الجماهير السودانية وتلبيه مطالبها الحياتية وذلك عندما غير علاقات الإنتاج بالجزيرة لصالح المزارعين وأنشا الإصلاح الزراعي وتطبيق كادر العمال والموظفين … واستحدث بند العطلة لتوظيف الخريجين ..مع مجانية العلاج والتعليم … وكان الهدف من كادر العمال والموظفين هو زيادة مرتبات العاملين بحيث تكون أعلى من احتياجات السوق وتشجيعهم حتى يخلصوا في اداء أعمالهم نهوضا بالدولة وزيادة في الإنتاج …وايضا رمي بذلك الي توسيع مواعين الطبقة الوسطي مستودعا للقيم في المحافظة علي السلام الاجتماعي واسس الديمقراطية الحقة … وهنا تكمن عبقرية الشريف حسين حيث أنه عمل على تكامل النواحي الاقتصادية والاجتماعية (أي زيادة الإنتاج مع توفر الخدمات الاجتماعية والسلام الاجتماعي) وهذا لب التنمية المستدامة … لأن الإنسان المتعلم والمتعافي في بدنه اكثر إنتاجا من غيره … ولقد اثمر هذا التوجه وتجلي واضحا في إنتاج مزارعي الجزيرة الغزير … والذي أشادت به صحيفة الصحافة عندما خرجت يوم 5 مايو 1969 (اَي قبل عشرين يوما من انقلاب مايو المشئوم) وكتبت بالخط العريض (أضخم إنتاج في تاريخ الجزيرة) .. والمعروف أن مشروع الجزيرة كان في ذلك الزمان بمثابة العمود الفقري للاقتصاد السوداني.
ولقد كانت المرحلة الثانية من مراحل التنمية هي تعلية خزان الروصيرص … وبالفعل مضي عقد تعلية الخزان مع البنك الدولي لإنشاء مشروع كنانة والرهد والبطانة إضافة لتأهيل حزام السافنا من باسنده على الحدود الأثيوبية الى الجنينة في غرب السودان … لو تحقق ذلك الحلم لكان السودان اليوم في مصاف الدول الغنية والمتقدمة .. ولكن تامر علينا أعداء الوطن .. وجاء انقلاب مايو المشئوم … وأوقف تنفيذ هذا التخطيط العلمي الرائع … وذلك الحلم الكبير.
ثالثا: عندما كان الشريف حسين وزيرا للمالية خلق علاقات مع الدول والهيئات العالمية … وواصل جهده هذا عندما عاش خارج السودان معارضا لنظام مايو …لقد كان له دور فاعل في المجالين العربي والأفريقي وساهم مساهمة فاعلة في تحرير وثورات بعض الدول الإفريقية والعربية نذكر منها زمبابوي والكونغو وغانا … وفي المجال العربي ساعد ثوار الجزائر في تحرير بلدهم ولقد كان من المدافعين البارزين عن قضية العرب الأولى … القضية الفلسطينية … هذا إضافة إلى علاقاته الوطيدة مع الكويت ولبنان والإمارات العربية والسعودية … واستمرت تلك العلاقات إلى ما بعد وفاته … وذلك عندما كان الشريف زين العابدين معارضا في الخارج كانت تزوره كثير من الوفود من دول البترول وغيرها … وتعرض عليه مساعدات مالية بحجة ان هذا دين في رقابهم نسبة للخدمات التي كان يقدمها لهم الشريف حسين … وكان الشريف زين العابدين يرفض أن يقبلها و يصدهم بأدب جم … ويقول لهم ان الشريف حسين كان يقدم هذه الخدمات باسم الوطن وليس جريا وراء مكسب شخصي .. وكان يقول لافراد حزبه … اننا سوف نقبل هذه المساعدات المادية عندما يتعافي الوطن … وحينها سوف نقدم لهم مشاريع تنموية ليقوموا بتمويلها – لله دركم.
وفي سبيل بناء دولة المستقبل كان دور الشباب جزءا مهما في رؤيته .. وتجلي ذلك واضحا عندما طبق في الداخل بند العطالة… وكان حرصه علي تعيين الخريجين في المصالح الحكومية لكي يتدربوا و يكتسبوا خبرة العمل المكتبي لكي يكونوا جاهزين لتطبيقها في ادارة المشاريع المستقبلية (الرهد وكنانة وتاهيل حزام السافنا).. والغرض الثاني من تعيينهم هو الحفاظ على هذا الاستثمار في مجال التعليم من الضياع والهجرة إلى الخارج …. وفي فترة معارضته لنظام مايو في الخارج عمد إلى إرسال بعض الشباب الي الدول الإفريقية والعربية والآسيوية والأوروبية لأداء بعض المهام … وكان يرمي من ذلك الي خلق قنوات اتصال بين هولاء الشباب وتلك الدول حتى يتم التواصل والتعاون في المستقبل بين تلك الدول والسودان … ومن أهم تلك المهام قام بإرسال بعض الشباب إلى جنوب شرق آسيا وخاصة الي اليابان وكوريا الجنوبية لمعرفة سر تفوقها الاقتصادي… وعند وفاته اتضح بان مجموع من درس وتدرب في غرب اوربا وجنوب شرق اسيا قد بلغ عددهم الاجمالي خمسة الف طالب في مختلف التخصصات .. وكان يتكفل بمصاريف دراستهم ومعيشتهم.
ختاما … كان الشريف حسين رجلا ذو رؤية ثاقبة … لقد خطط لبناء الدولة السودانية بعد زوال حكم مايو حتى يكون السودان من أغنى وأقوى الدول ..وفي هذا الصدد وضع الأسس القوية لنمو الاقتصاد السوداني والعمل على تماسك الجبهة الداخلية والنسيج الاجتماعي وصولا لمجتمع الكفاية والعدالة الاجتماعية والمساواة … وعمد الي خلق علاقات خارجية متوازنة … رحم الله الشريف حسين .. لقد أحبته الجماهير السودانية وعمدته رئيساً لها من دون ان يحكم … وظلت سيرته العطرة تعطر سمائنا حتى اليوم … ونحن في الحزب الوطني الاتحادي الموحد سوف نسير على دربه ونبراسه ونبراس زعيم الأمة السيد اسماعيل الأزهري وصحبه الأبرار لإعادة بناء الوطن.
جامعة مدينة نيويورك