رأي
محمد خير عوض الله يكتب في تحت الشمس: إلى نقد في عليائه
إلى نقد في عليائه
بقلم: محمد خير عوض الله
إلى نقد في عليائه
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية للزعيم السياسي الكبير الأستاذ محمد إبراهيم نقد، الذي عرف بالصدق والنزاهة والتواضع والصبر وتوطين النفس على السماحة واحتمال الآخر.
ورحم الله كبار السودان جميعاً، فقد كانوا كباراً في التسامي والتعاطي والتقاضي والتغاضي، نفوسهم سمحة وكبيرة، ومن هؤلاء محمد إبراهيم نقد، الذي أجمع على محبته وحسن صفاته كل فرقاء المشهد السياسي، وإذا كان هو أبرز قادة معارضة نظام البشير، فقد كان البشير يكن له وداً خاصاً وقد استرسل متحدثاً بنفسه عن ذلك، والدلالة هنا مهمة، فإذا كانت هذه هي المعارضة فكيف تكون المصالحة؟! وهذا شأن السودانيين، عرفوا به بين الشعوب، ليتهم يحافظون عليه، وقد فعل الراحل نميري موقفاً تاريخياً نادراً في ممارسة السياسة والحكم، لن تجده سوى في السودان، حين أعطى الأمان للزعيم المعارض الذي تبحث عنه أجهزة الأمن وتنفق الايام والشهور لتظفر به، لكن الرئيس، زميل الدفعة والدراسة، يمنحه الأمان ليشارك خريجي حنتوب في احتفال اليوبيل، وليعود إلى مخبئه دون رصد أو مطاردة، ونقد الشجاع المتسامي يأتي ويشارك ثمّ يعود إلى الاختباء والاختفاء، فمن تفوق على الآخر.. نقد أم نميري؟! ولنقد مع المخابيء قصة أخرى مشهورة، حين اكتشف جهاز الأمن مخبأه ولم يكن مطلوباً ليختفي، فسجّل المدير العام للجهاز صلاح قوش ومعه نائبه، زيارة لنقد في مخبئه ليخرج ويمارس نشاطه في العلن. إنها الشخصية السودانية بخصائصها المتفردة التي تعمل آلات التجريف لخلخلة موروثات وثوابت في العلاقات الإنسانية والاجتماعية على الصعيد الممارسة العامة، تجريف مسرع، وبعنف وقسوة ودون تريث أو تمرحل، وأصبحت أداة التعاطي مع الآخر سحقه واستئصاله، وتمدد خطاب الكراهية حتى صاحت منابر إعلامية تبحث عن العقل والعقلاء.
رحم الله الرجل الكبير نقد، الذي لو بحث الحزب الشيوعي ألف مرة لن يجد أفضل منه بين قياداته ليقود الحزب في ظرف سياسي وأوضاع داخلية للحزب بالغة الصعوبة والتعقيد. وأكاد أجزم، أن الحزب لو اختار قائداً من ذوي الحمولات الفكرية والفلسفية الثقيلة المثقلة، لما بقى الحزب على المشهد، وهو يخرج مطروداً من البرلمان على إثر حادثة معهد المعلمين والتي سبّ فيها بيت النبي صلى الله عليه وسلم (بغض النظر عن أي تفاصيل، فقد سدد الحزب الفاتورة القاسية حقاً وواقعاً (الحجر السياسي والعزل المؤسسي) كذلك تم اختيار نقد والحزب قد أعدمت قياداته، وتعيش عضويته مطاردات وحرب استئصال عنيفة نفذها نميري في أعقاب انقلاب هاشم العطا الذي اطاح بالنميري وجاء ل(يصحح المسار) لتكون مايو (لينينية خالصة) كانت أدبيات الحزب وأطروحته الفكرية لاتناسب المجتمع السوداني المتدين، فليس له في أدبيات المنشفيك والبلشفيك والصراع الطبقي،.. الخ. استطاع نقد بطبيعة شخصيته الاجتماعية المتصالحة والمنفتحة، أن يكمل مشروع (سودنة الحزب) في جوانب عديدة، أبرزها الشعر والآداب والفنون، وهذه تقدم فيها الحزب على كافة الأحزاب، وهذه الرافعة هي التي جعلت الحزب يكتسب مساحات واسعة في الجامعات وفي المنتديات والملتقيات الثقافية، بل والسياسية، حيث يكون الكورال والشعر والفنون ضمن فقرات الليالي السياسية.
في تقديري لم يأت من يمثل معشار ماكان من صفات نقد، فالحزب اليوم بحاجة لشخصية أكثر تصالحاً وانفتاحاً من نقد نفسه، لأنّ مساحات التحرك للعضوية كلها، لاتخرج عن دائرة (الرأسمالية) و (الليبرالية) والحزب يتعاطى اليوم معها لأنها فرضت واقعها والتقمته، بينما بقيت الآداب والفنون والأشعار لاتعبّر عن ليبرالية، فلاتزال الاشعار تعبيء عواطف الانتماء، في قضايا الحزن والفقر والجوع والظلم والمظالم والظلام والظلامات، والهدم والغرق والشهيد والكفاح والنضال واستعار المعارك والمقاومة وعدم الاستسلام.. الخ، ولاتجد اثراً لصيحات البناء والتعمير والتداول السلمي والانتخابات والزراعة والإنتاج والتنمية والخدمات، ووقف الاقتتال السياسي، والمصالحات.. الخ.
سيتدافع المبررون، وأعلم مايقولون، ولكنهم يحبسون أنفسهم والحزب في مرحلة لابد من مغادرتها، التحفز المستمر للمعارك والبقاء دوماً في المخابيء والخفاء، وفي خانة المظلوم والمقاوم، هذا منهج استمرأه الحزب لنصف قرن ولايزال يحبس نفسه في أقفاصه، وهو منهج لايمنح عضوية إلا في فئتين، فئة يستهويها أدب المقاومة وفئة تجذبها دوافع الاستبسال النبيلة، كطبيعة شخصية وفطرة إنسانية، بغض النظر عن فحوى القضية السياسية من ناحية موضوعية. الحزب بحاجة لزعيم يبني على مابناه نقد، ويكون أكثر جرأة في الخروج على ما اعتاد عليه من تاثيرات الماركسية، ويتجه نحو الليبرالية بكل جوانبها النظرية والتطبيقية، وليس بالطريقة الانتقائية التي يعمل بها الحزب اليوم في توليفة هجين أفقدته هويته الحقيقية ولم تكسبه هوية جديدة، ولاشك هذه معركة ظلت تحتدم وتؤجل، منذ عوض عبدالرازق وأحمد سليمان ولاحقاً الخاتم عدلان والحاج وراق، ولاحقاً الشفيع خضر، وهكذا.
رحم الله الزعيم السياسي النقي محمد إبراهيم نقد، واسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.