رأي

بروفيسور صلاح محمد إبراهيم يكتب: أوكازيون المبادرات السودانية العبثية

أوكازيون المبادرات السودانية العبثية
بروفيسور صلاح محمد إبراهيم
ليس من عادتي في الكتابة أن أدخل في مساجلات صحفية تشغل الناس ، وعلى خلفية التعليقات حول مقالي السابق ( عسكرية ولا مدنية) كعادة الكثير من الكتاب ولا أقول الصحفيين الذين اطلق عليهم أستاذ الإعلام والصحفي الراحل بروفيسور عبد الرحيم نور الدين مصطلح ( أطفال الأنابيب ) ، يجبرنا البعض على الخروج على ما تعودنا عليه ، فقد نقل لي بعض الأصدقاء أن أحدهم تعرض لتجربتي في صحيفة السياسة التي تركتها مستقيلاً كتابة متجاهلا كل حقوقي في خبرتي المهنية التي قدمتها في التأسيس لصحيفة حققت في زمن قصير لأول مرة في تاريخ السودان قفزة نوعية واقتصادية بسرعة مذهلة غير مسبوقة داخل وخارج السودان، كانت الصحيفة توزع 8 الف نسخة يومياً في المملكة العربية السعودية وحوالي 80 الف نسخة داخل السودان ، تركت الصحيفة لسبب مهني واخلاقي معلوم في ذلك الوقت ( حادثة شريط الكاسيت)، وغادرها معي معظم طاقم العاملين في غرفة الأخبار وعلى رأسهم المرحوم توفيق صالح جاويش عميد المخبرين الصحفيين ، وكنت قد نجحت بحكم خبرتي في استقطاب افضل فريق صحفي متجانس لم يتكرر حتى اليوم ، وكانت الصحيفة اول مؤسسة صحفية بحق بعد التجربة المايوية. كثير من هؤلاء الدخلاء على المهنة نصبوا انفسهم يتبرعون بتقديم الفتوى حول من هو الأكاديمي الناجح والصحفي الفاشل دون خبرة أو معرفة ، وكعادة ما يجري في الكثير من صحفنا من المساجلات معظمها شخصية وسطحية وانطباعية وسماعية ولا تفيد القراء .
وعلى ذكر تجربة السياسة التي عاصرت فيها حكومة الجزولي خلال فترة تأسيس السياسة ،عرضت قناة ( العربية ) حلقات قبل أيام مع د. الجزولي دفع الله رئيس وزراء الحكومة الانتقالية بعد انتفاضة 1985، استعرض فيها تجربة التعامل النقابي مع العسكريين وعلى رأسهم الراحل المشير سوار الذهب ، ولا شك أن الجزولي يضحك وفي حالة من الاندهاش والاستغراب على اوكازيون المبادرات الذي يجري الان بمسميات مختلفة ، ومن كل الوان الطيف السياسي وغير السياسي والنشطاء ومتطوعون كثر يقدمون مقترحات ، وكلها في نهاية المطاف مضيعة للوقت وعدم إحساس بالمسؤولية الوطنية تجاه هذا الشعب الذي يدعي كل طرف انه يمثله ، والحقيقة أن لا احد منهم يمثله ، فادعاء التمثيل دون تفويض ما هو إلا تزييف وتلفيق للتسويق السياسي في وسائل الإعلام .
تشخيص الأزمة الحالية مع كثرة المبادرات يتطلب قبل طرح كل طرف لمبادرته أن تقف هذه الأطراف لمعرفة طبيعة التمثيل وعلاقة هذه القوى الفاعلة على الأرض بجمهورها ومن يمثلون ، وهل يعكس التمثيل والمبادرات المطروحة في حقيقتها لا تمثل توجهاً قومياً جامعاً ، ومعظمها وجوهرها تمثيل لأقاليم شكلاً وموضوعاً ، وعلى سبيل المثال معظم الفاعلين في مبادرة مجموعة الحرية والتغيير الوفاق الوطني هم من الحركات المسلح الدارفورية ، ولدي الحرية والتغيير المجلس المركزي مبادرة ، وهي تمثل خليطاً من احزاب يسارية ويمينية تدعي أنها تمثل الشارع وتواجه معارضة من المكونات الإقليمية المختلفة ، وحزب الأمة له مبادرة رغم انه شريك في المجلس المركزي، وهناك مبادرة الحركة الشعبية بقيادة عقار ( النيل الأزرق) ، وهناك اطروحات من قبل شرق السودان بقيادة محمد الأمين ترك ، بجانب مبادرة أهل السودان التي قادها الطيب الجد ، وهي مبادرة بقيادة زعامة من الخرطوم ، وفي ظل كل هذا التشاكس والصراع يظل إقليم الوسط كتلة غائبة في داخل هذه التكوينات المتصارعة .
لذلك لابد قبل الدخول في أوكازيون المبادرات من تفكيك طبيعة العلاقات داخل هذه المكونات التي تتقدم بالمبادرات ، فمن الواضح أن الصراع الذي يدور ليس صراعاً بين أحزاب سياسية ذات طابع قومي ، الواقع السياسي ليس هو كما كان الحال عليه بعد الاستقلال عندما كان حزبان رئيسيان لهما قواعد وتمثيل في كل الأقاليم ، نحن الان نعبش عصر المكونات الإقليمية المطلبية ، والحركات الجهوية المسلحة ، والانقسامات الحزبية الكثيرة ، التي وصلت لدرجة أن حزب مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي تتصارع قياداته داخل البيت الواحد، والحزب الكبير الأخر فقد زخمه لدرجة أنه اضطر للتحالف مع اضاد له فكرياً وتاريخياً وهو الأخر تشهد ساحته اضطراباً داخلياٌ وتشققات.
في اعتقادي أن كل هذه المبادرات هي مجرد أهدار للزمن كما قلت ، ولن تصل إلى نقطة التقاء ، لآن من يتقدمون بها يشكلون ( خرتبيط ) كما يقول اخوتنا في الخليج ، لا يصلح أن ينتح عنه فعل أو مخرج يعني حكومة انتقالية يمكن أن تقود البلاد إلى انتخابات او إصلاحات تتطلبها فترة الانتقال ، لذلك قلت أن د. الجزولي يضحك الان ملئ شدقيه على النشطاء والفاعلين الذين عجزوا على مدى أكثر من ثلاثة سنوات عن حل مشكلة الفترة الانتقالية التي حسمها هو ورفاقه خلال أيام بعد خروجه محمولاً على الأعناق من سجن كوبر.
تدرون لماذا نجح الجزولي لآن الذين ثاروا في انتفاضة 1985، لم يكونوا طلاب سلطة، أو مبادرات أو مشاكسات ، حملت الجماهير الجزولي على الأعناق من سجن كوبر وغادروا ، وكل ذهب إلى منزله أو حزبه لترتيب اوضاعه والاستعداد للانتخابات ، وتركوا الجزولي ورفاقه يعملون ونجحوا في خلال عام تسليم الحكم لمن اختارهم الشعب.
السيد د. حمدوك مع تقديرنا له لم تخرجه المظاهرات من سجن كوبر ، ولكن خطائه أنه قبل أن يعمل تحت مظلة وحاضنة سياسية لم يكن من المطلوب وجودها اصلاً لترتيب وضع انتقالي ، لآن وجود الحاضنة يعني أنها يمكن أن تشكل المستقبل السياسي على أهدافها ورؤيتها ، وهذا يفقد رئيس الوزراء الاستقلالية ، وللأسف هذا هو ما حدث ، تزايدت الضغوط على رئيس الوزراء من الحاضنة لدرجة افقدته السيطرة على إدارة الدولة وحدث ما حدث، وكان من أخطر ما ورثته البلاد بعد خروج حمدوك وحكومته الأولى هو توريط البلاد في تدخل اممي لم يكن مطلوباً في التجربة السودانية ، وكان يدل على عدم خبرة بإدارة العملية السياسية في السودان وهو امر خلق تعقيداً ظلت البلاد تعيش فيه دون أن يلوح مخرج في الأفق.

بعيداً عن أوكازيون المبادرات التي لا نهاية لها، أرجو أن يدعو السيد رئيس مجلس السيادة الانتقالي بعيداً عن المزايدات والاتهامات التي يتم اطلاقها (كيزان ، نظام مباد وعسكر وغير ذلك) بعض الشخصيات القومية ذات التوجه الوطني لتقوم باختيار رئيس وزراء حتى يتم حسم هذا الوضع الخطير الذي انزلقت إليه البلاد، اما إذا انتظر النشطاء ، غداً سوف تأتي مبادرة فلان وعلان الذين ينشقون عن مكوناتهم مع كل صباح طالما الأوكازيون مفتوح.

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق