سياسة
ميلاد (الأمن الداخلي) في الاتفاق الإطاري.. إعادة لتجربة مايو.. أم استحداث لطريق ثالث؟
تقرير: مزدلفة دكام
الأمن بمفهومه العريض هو غاية تسعي اليها كل المجتمعات من أجل تحقيقها والأمن هو تعني حالة الاستقرار والاطمئنان التي تسود المجتمعات وتجعلها قادرة لتعيش حياتها. هناك كثير من المجتمعات والدول عاشت حالة ولن تستطيع هذه المجتمعات العودة الى حالة اللا أمن.
هناك كثير من الأجهزة النظامية بمختلف مسمياتها تعمل على تحقيق الأمن بمفهومه الشامل . لذلك تجتهد الحكومات في جميع دول العالم للمحافظة على أجهزة أمنها ومخابراتها والاجتهاد في الحيلولة دون تعرضها لأي موجات أو ضغوطات تقود لتغييب أدوارها.
دار جدل كثيف الأيام الماضية حول بند أو نص ورد داخل (الاتفاق الاطاري ) تناول مفهوم الأمن أو السعي لميلاد “جهاز” للأمن الداخلي؛ حيث يرى مراقبون ان السودان يعيش أوضاعا استثنائية تتطلب الكثير من الحرص والحذر خاصة في ظل هشاشة داخلية واضطراب أمني لم تسلم منه حتى بعض دول الجوار إضافة للأنشطة المتكررة التي تنفذها بعض الجماعات الإرهابية في المنطقة أو الجوار.
تكرار تجربة مايو
خبراء عسكريون تحدثوا عن أخطار جمة؛ تتهدد البلاد في حال اكتمل إضعاف دور جهاز المخابرات في ظل أوضاع القارة الاستثنائية وما تعانيه دول الجوار من هشاشة أمنية؛ وتربص دول وأعداء طامعين وساعين للاستيلاء على الموارد والسيطرة عليها.. ويرى الخبراء أن مقترح إنشاء (جهاز للأمن الداخلي)؛ في ظل الظروف الراهنة للسودان؛ و تحت مظلة حكومة غير منتخبة ووسط بيئة سياسية مليئة بالاختلاف سيؤدي حتما ويقود لممارسات وقمع غير مقبول.
في هذا الجانب يرى الخبير الأمني الفاتح عثمان في حديث خص به “الإنتباهة” ان الاتفاق الإطاري وتوصيات ورشة إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية تحدثت عن تحويل جهاز المخابرات العامة الى جهاز لجمع المعلومات فقط واعتبرت الجهاز يكون بعيدا كفاية عن اي دور في الاعتقال بكافة أشكاله. وأشار محجوب الى وجود مقترح داخل الاتفاق الإطاري خاص بتكوين جهاز الأمن الداخلي ليكون تحت إمرة رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية؛ ورفض الفاتح فكرة تكوين جهاز أمن داخلي وبرر ذلك بان الفكرة غير مناسبة حاليا في ظل التوتر الحالي الكبير جدا بين القوى السياسية السودانية ووجود شبهة في امكانية تكوينها بما يخدم مصالح القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري ويسبب الضرر للقوى السياسية غير الموقعة وفي ظل حكومة غير منتخبة وغير موسعة .
ولفت محجوب الى ان جهاز المخابرات العامة بوضعه الحالي اصلا ممنوع من الاعتقالات ودوره مقصور ومحصور فقط في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لولي الأمر.. وبالتالي- والحديث لمحجوب- لا توجد مشكلة في ذلك لكن تكوين جهاز أمن داخلي في ظل التوتر الحالي والكبير يعتبر أمرا غير مقبول.. والأفضل ان يتم إنشاء ادارة داخل الشرطة تعني بالاعتقال للجهات التي تهدد أمن الدولة السودانية بالتنسيق مع جهاز المخابرات كما هو سائد في بريطانيا وبذلك فقط يمكن الحفاظ على امن الدولة السودانية من دون تجاوزات قانونية تضر بحقوق الإنسان.
وأضاف محجوب انه من الواجب على قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي تجنب تكرار تجربة أمن مايو وأمن الإنقاذ؛ والعمل على ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان من دون تفريط في أمن الدولة السودانية.
تكرار الخطأ
الى ذلك صاغ الخبير العسكري اللواء ركن عصام ميرغني تحذيرات جمة وهو يتحدث لـ”الإنتباهة” حول خطر تكرر (حل جهاز المخابرات) ؛ وهي التجربة التي شهدها السودان بحل جهاز أمن مايو بعد أحداث الانتفاضة في ابريل 1986.. حيث قال ان المطالبة بتفكيك جهاز المخابرات العامة التي ظهرت هذه الفترة لم تكن هي الاولى في تاريخ السودان السياسي فلقد برزت هذه الدعوة عقب ثورة أبريل ٨٦ الامر الذي دعا المرحوم المشير سوار الدهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في تلك الفترة ان يصدر قرارا تضمن بيانا منفصلا خصص بالكامل لحل جهاز أمن الدولة في ذلك الحين.
وبحسب عصام في ان امر حل جهاز امن النميري كان نتيجة ضغوط من جهات سياسية محددة هي نفس الجهات الموجودة الآن والتي كانت في انتفاضة ابريل ١٩٨٦ واشار عصام محجوب الى ان الأعوام التي أعقبت حل الجهاز عاشت فيها البلاد فراغا أمنيا كبيرا .. وشهدت البلاد أيامئذ أحداثا كبيرة كان أبرزها مقتل الحكيم وحادثة الاكروبول وكلها أحداث خارجية تم اختيار السودان مسرحا لها لحالة الفراغ الأمني التي شهدتها الخرطوم في تلك الأيام.
معلوم ان جهاز المخابرات العامة جهاز يمتد عمره لسنين طويلة وهذا يعني تراكم الخبرات وتخريج الكادر .. وهو كادر يكون قد نال قدرا من التدريب بحسب سنوات الخبرة ونشأت بالتالي الكثير من العلاقات الامنية مع أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية النظيرة.. وتكونت بناء على ذلك قاعدة تعاون كبيرة تخدم أمن السودان وأمن المنطقة؛ ويمضي محجوب لذلك حقق السودان نجاحات في أوقات متفرقة؛ وامسك بملفات أمنية كبيرة على مستوى الاقليم؛ وعرفت أن هذه الملفات ذات ارتباطات وتعقيدات متباينة.
حقق الجهاز خلال سنواته الطويلة الكثير من الإنجازات وعمل بشكل كبير ومهم في تأمين السودان؛ ويرى محجوب أن دواعي (التفكيك) التي جاءت الآن انها نتجت من كانت من زاوية ضيقة لم تعط النظرة الكلية لدور جهاز المخابرات العامة وأغفلت (إيجايبات) كثيرة جدا وكبيرة جدا لهذا الجهاز.. ولا شك ان دواعي التفكيك –كما يرى محجوب- انها ستسبب كثيرا من الأضرار بأمن السودان وامن المنطقة.. حتى ولو تم استبداله بجهاز آخر؛ فعامل السنين وخبرة الكوادر لها تأثيرها الكبير والمباشر. ويضيف محجوب لقد عشنا التجربة هذه في حكومة الديمقراطية الثالثة التي أعقبت ثورة أبريل ويعلم الجميع ماذا تم بعد ذلك؛ والمآلات والانحدارات التي انحدر فيها الأمن السوداني.
وأكد ميرغني على أدوار كثيرة كانت ايجابية للجهاز حيث أفلح في محاربة عمليات التجسس ومكافحة الإرهاب وعمليات غسيل الأموال والجرائم العابرة للحدود مثل جرائم المخدرات؛ التي تنفذها منظمات إجرامية دولية وعابرة للقارات.
مهامه عسكرية
ويقول الخبير القانوني د. محمد شريف الباقر ان مايجري من نزاع حول (صلاحيات) جهاز الأمن وحله وهذه القضايا التي برزت في بعض نصوص الاتفاق الإطاري؛ يقول هذا الأمر يؤدي الى حدوث فوضى تقود في النهاية لحالة عدم استقرار وزعزعة في الأمن.. واضاف د. شريف الى ان مهام ومسؤوليات جهاز المخابرات العامة هي ليست كمسؤوليات (الأمن الداخلي ).. ولفت الباقر الى ان الجهاز مهامه عسكرية لذلك من الخطأ إسناد مهامه لأي جهة أو جهات أخرى.. او اسناد مهامه لجهات مدنية ؛ كأن يكون تحت مظلة رئيس الوزراء وشدد على ضرورة تعزيز دوره وتطويره لا حله وتبعيته لأي جهة.
مهددات أمنية
يقول الصحفي المختص في الشأن الامني د. طارق عبدالله ان فكرة تكوين جاهز للأمن الداخلي ليست حديثة بل هي امتداد البوليس السري كأول ادارة أمنية وفي كل مراحل تكوينها منذ الاستقلال وحتى الإنقاذ كانت تتبع في الحكومات الديمقراطية لوزارة الداخلية وفي الحكومات العسكرية تكون ادارة منفصلة يتم تشكيلها من إدارات الجيش والشرطة ويوضع لها منهج ومعايير للتجنيد وفي حكومة الصادق المهدي كان هناك امن داخلي وهي ذات الفكرة المتداولة حاليا بان يتبع لوزارة الداخلية ولكن فور استلام الانقاذ تم تحويل الأمن الداخلي الى الشرطة الأمنية وكانت تقوم بعمل امني مثل الطوف الليلي ومراقبة أداء عناصر الشرطة وإدارة للمعلومات وأخذت تتطور كإدارة شرطية وتكون في ذات الوقت جهاز الأمن العام من وحدات الجيش والشرطة.
ويضيف عبدالله في الوقت الحالي الأمور اختلفت والمهددات الأمنية على المستوى الداخلي والخارجي لم تعد كما كانت في السابق وحتى قضايا الأمن اختلفت وتداخلت القضايا الداخلية والخارجية بصورة أصبح من الصعب تجزئتها بين إدارات مختلفة مهما حاولوا رفع مستوى التنسيق واكد د. طارق على ان فكرة تكوين أمن داخلي بمفهومها القديمة لاتصلح للزمن الحالي ولن تحقق الأهداف المنشودة ولا تواكب التطور في هذا المجال حيث تقتصر مهام الأمن الداخلي على أعمال الشغب والإنقاذ وأعمال التأمين وحرب المدن كما ان الأموال الضخمة التي صرفتها الإنقاذ في تأهيل وتطوير جهاز الأمن والمخابرات الوطني والإمكانيات التي يتمتع بها ومستوى التنسيق العالي يجعل محاولة تقليص ذلك الدور الى إدارة مخابرات معنية بالمعلومات وتحليلها لا يتناسب مع حجم المهددات الداخلية ولا الخارجية وقيام جهاز الأمن والمخابرات الوطني بإمكانياته المادية والبشرية عصارة جهود خبراء وبيوتات خبرة واستفادة قصوى للتقنيات الحديثة.