رأي
إمام محمد إمام يكتب: عمر الشاعر.. صاحب “العزيزة” في رحاب العزيز الحكيم
بحصافة – يوم الاثنين 2023/8/28
بحصافة
عمر الشاعر.. صاحب “العزيزة” في رحاب العزيز الحكيم
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
غيب الموتُ، الذي هو علينا حقٌّ، تصديقاً لقول الله تعالى “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. وقد يتراءى على البعض أن هنالك تعارضاً بين كون الموت ينغص اللذات ويُضيقها، وبين كونه يُخفف حال الضيق ويُوسعها. ولكن إذا تدبرنا الأمر مليّاً، ينتفي التعارض، إذ أن صاحب السعة يتمنى دوام الحال التي هو عليها، فذكر الموت ينغص عليه ذلك ويُضيقه، بينما صاحب الضيق لا يُريد دوام الحال التي هو عليها، فذكره الموت يُهون عليه ما هو فيه. وقال القرطبي: “فأعلم أن ذكر الموت يُورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، ثم إن الانسان لا ينفك عن حالتيّ ضيقٍ وسعةٍ، ونعمةٍ ومحنةٍ”. وفي “التنوير” للصنعاني: “فإنه لم يذكره أحد في ضيقٍ من العيش، إلا وسعه عليه”، لأنه إذا تيقن مَنْ هو في الضيق أنه مفارقه، خالص عنه، هان عليه ما هو فيه، لأن الخلوص من المكروه محبوب، ولذا جاء في الحديث أنه لو قيل لأهل النار أنكم ماكثون فيها عدد أيام الدنيا، لفرحوا. ولو قيل ذلك لأهل الجنة لحزنوا، ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فسحة الأمل
فالموتُ مدركنا، مهما تعددت الأسباب، وتباينت المسببات، تأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”.
وفي ذاكم، قال الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
تُوفي إلى رحمة الله تعالى الأخ الصديق ابن بلدتي كسلا، عمر عبد الله محمد إبراهيم، الشهير بعمر الشاعر، يوم الخميس 25 أغسطس (آب) 2023، بعد معانة لآماد طوال من المرض، في مستشفى السلاح الطبي بأم درمان.
وُلد الموسيقار الراحل عمر الشاعر في كسلا عام 1949، حيثُ تلقى تعليمه في المراحل الدراسية الأُولى بكسلا، في المدرسة الابتدائية الغربية التي درستُ فيها، وكان ناظرها المعلم المربي الموسيقي عبد الرحمن بيه الذي كان يُولي تلاميذه المبدعين في مجالات الإبداع المختلفة، رعاية خاصة، وعناية فائقة، ثم المدرسة الأهلية الوسطى، ثم مدرسة كسلا الثانوية، ثم التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وتخرج فيه في عام 1974.
عرفتُ الأخ الراحل عمر الشاعر منذ بواكير الصبا والشباب في كسلا، وتعمقت هذه العلائق عندما تسنمتُ مهام السكرتير الثقافي والإعلامي لنادي الخطر الرياضي الثقافي الاجتماعي في حي الترعة بكسلا، وأنا طالب بمدرسة كسلا الثانوية آنئذٍ، إذ كنا نشركه في فعاليات مناشطنا الثقافية، وكان وقتها مغنياً ناشئاً وعواداً بارعاً (عازف على العود)، وكان يصطحب شقيقه الأكبر المطرب الكسلي محمد الشاعر، بالعزف على العود في المهرجانات وحفلات الأعراس الكسلية.
ولمَّا نما إلى علمي خبر وفاته يوم الجمعة الماضي، تذاكرتُ مع ابن بلدتي كسلا، الأخ الصديق رجل الأعمال المعروف في لندن محمد حسن الناير، بعض الذكريات عن الأخ عمر الشاعر، لا سيما وأن الناير كان يسكن بعد تخرجه في جامعة الخرطوم مع عُصبةٍ كرامٍ من أبناء كسلا حديثي التخرج في جامعة الخرطوم، منهم الراحل محمد حمدان والفاتح بيرق وآخرون، بالقرب من منزل عمر الشاعر في حي العباسية بأم درمان، وكنتُ أزورهم بين الحين والحين، وأزور الأخ عمر الشاعر أيضاً في منزله المجاور للفنان المبدع العندليب السوداني محمد إبراهيم زيدان علي، الشهير بزيدان إبراهيم -يرحمه الله- ومن ضمن هذه المذاكرة مع الأخ الناير، تذكرنا المناسبة التي أظهرت عمر الشاعر ودفعته دفعاً إلى مغادرة كسلا التي أشرقت بها شمس وجدنا الثلاث، وهي احتفائية كسلا بعيد العلم تحت إشراف العميد (معاش) عمر الحاج موسى وزير الثقافة والإعلام والمشرف السياسي على مديرية كسلا، وذلكم في فبراير (شباط) 1973. وحضر احتفال كسلا بعيد العلم في ذاكم العام، الرئيس الراحل جعفر محمد نميري -يرحمه الله-، وشارك الراحل عمر الشاعر في ذاكم الحفل مع عدد من الفنانين من أبناء كسلا ومقيميها، منهم أنس العاقب وكمال إبراهيم سُليمان الشهير بكمال ترباس وعبد العظيم عبد الله الشهير بعبد العظيم حركة وإبراهيم حُسين والتاج مكي والفاتح كسلاوي وإبراهيم عوض الكسلي وعبد الله البعيو الذي جاء إلى كسلا عندما كان يعمل في السكة حديد بعطيرة وإبراهيم منصور الذي أتانا من الجزيرة وكان يعمل ممرضاً في وزارة الصحة. ولقد أنعم الله على هؤلاء أن كسلا وقتذاك، كان بها كوكبة من عمالقة الشعر الغنائي، بعضهم شعره الغنائي سبقه إلى الخرطوم، منهم كجراي والدكتور جيرتلي واسحاق الحلنقي وعبد الوهاب هلاوي وعزمي أحمد خليل وآخرون. كانت احتفائية عيد العلم في عام 1973، انطلاقة الكثير من هؤلاء المبدعين الذين جاءوا إلى الخرطوم زُمراً وفرادىً، وملأوا أُمسياتها وأجهزتها الإعلامية شعراً وطرباً. فلا غروَّ أن تصدروا خارطة الغناء والموسيقى في السودان إلى يوم الناس هذا.
كان الراحل عمر الشاعر، طيباً خلوقاً، حسن المعشر، ودوداً في تعامله مع معارفه، عفيف اللسان، طيب القلب، صابراً على ابتلاءاته، لذلكم شق على أهليه ومعارفه فراقه، لكنه هذا هو الموت، الذي قال فيه أبو الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سارقٌ دَقّ شخصُهُ يصولُ بلا كفٍّ ويسعى بلا رِجلِ
رافقتُ الأخ البروفسور مأمون حُميدة رئيس مجلس أمناء جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا قبل ما يزيد عن عامٍ في معيادة إلى الأخ عمر الشاعر والاطمئنان عليه في منزله بحي الموردة في أم درمان، فأحدثت تلكم الزيارة وقعاً طيباً في نفسه. وحجاجي على رقته وتقديره للناس، وحُسن تعامله، أذكر أنه على الرغم من أنه أعرب عن شكره للبروفسور مأمون حُميدة بعد أن عاده في مرضه، إلا أنه ألح عليّ أن أُعيد تشكراته لصنيع البروفسور مأمون حُميدة على هذه اللفتة الإنسانية التي عُرف بها مع أهل الفن والرياضة.
وكان الراحل عمر الشاعر بدأ حياته الفنية مغنياً في كسلا، وردحاً من الزمان في الخرطوم، ولكنه رغم إجازة صوته من الإذاعة السودانية، اتجه إلى التلحين وبرع فيه أيما براعة.
وأحسبُ أن الراحل عمر الشاعر حالفه الحظ كثيراً، في تحقيق طموحاته، بمقدمه من كسلا إلى الخرطوم، إذ أنه كان مغرماً بالعسكرية، فالتحق بسلاح الموسيقى، جندياً بالقوات المسلحة، ووجد رعاية خاصة لموهبته الموسيقية من العميد جعفر فضل المولى قائد سلاح الموسيقى آنذاك. والتحق من ثم بالكلية الحربية وتخرج فيها في الأول من يناير (كانون الثاني) 1982، وتدرج في الرتب العسكرية حتى أُحيل إلى التقاعد برتبة عميد فني في 30 مارس (آذار) 2002. وبعد التقاعد عمِل في كلية علوم الطيران الجامعية في الفترة من أغسطس 2002 إلى فبراير 2006. وعمِل أيضاً في مراكز كمبيردج العالمية في الفترة من أغسطس 2007 – 2011، ثم أكاديمية دبلن العالمية للتدريب الاحترافي، وكذلك جامعة المستقبل.
أخلص إلى أن الموسيقار الراحل عمر الشاعر شكل ثنائية متفردة مع الفنان الراحل زيدان إبراهيم، من خلال التعاون اللحني الإبداعي، في تقديم عشرات الأغنيات التي لحنها لزيدان إبراهيم، منها “فراش القاش” و “شقا الايام” و “قصر الشوق” و “ما أصلو ريدا أصبح حياتي” و”عشان خاطر عيون حلوين” و”فى الليلة ديك” و”وسط الزهور متصور” و”أخونك” و”أسير حسنك يا غالي” وغيرها.
ولم يقتصر تعاون الراحل الموسيقار عمر الشاعر اللحني مع زيدان إبراهيم، بل امتد إلى العديد من المطربين، ومنهم ثنائي النغم، وثنائي الجزيرة، وحمد الريح، ونجم الدين الفاضل، وعبد العزيز المبارك، وعبد العظيم حركة، والبلابل، وإبراهيم حسين، وعلي السقيد، وعمار السنوسي، وعثمان مصطفي، وعز الدين عبد الماجد، وآخرون. وأظهرت أغنية “العزيزة”، وكذلك و”ما كنت عارف ياريتنى كنت عارف” و”السنين ضاعت واحسرتي.. لا الطيبة أجدت لا دمعتى.. واحسرتي” لعبد العزيز المبارك، مقدراته اللحنية المتفردة. وتعاون الراحل عمر الشاعر مع العديد من المطربين الشباب. ونال عضوية المجمع العربي للموسيقى العربية، واتحاد المهن الموسيقية في أم درمان، وساهم بقدرٍ فعالٍ في اللجان الفنية للمصنفات الأدبية والفنية، والهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون لإجازة الأصوات الجديدة، والألحان الجديدة.
ألا رحم الله تعالى الموسيقار عمر الشاعر رحمةً واسعةً، ومغفرةً عظيمةً، وتقبله قبولاً طيباً مباركاً، وأنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، وألهم آله وذويه وأهليه جميعاً، وأصدقاءه وزملاءه وعارفي فضله وذائقي فنه وموسيقاه، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد قول الله تعالى: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”.