رأي

حيدر التوم خليفة يكتب: مشروع التأصيل والبعث الكوشي، وفرضية التاريخ المتنقل

*مشروع التأصيل والبعث الكوشي ، وفرضية التاريخ المتنقل ..
*تعقيبا على فيديو بروفيسور عبدالله الطيب …*

*ما هو العنقريب ، وما رمزيته ، وماذا تعني كلمة عنقريب في الكوشية القديمة …؟*

*ما بين عنقريب الجرتق (الإعلان عن بداية حياة جديدة ، وعنقريب الجنازة ، الإعلان عن نهاية الحياة وحملها إلى مثواها الأخير)*

*حيدر التوم خليفة*

ارسل لي الاخ العزيز الدكتور محمد عثمان على البشير ، من دوحة الخليج بالأمس فيديو ، يتحدث فيه البروف الراحل العلامة عبد الله الطيب عن العنقريب ، متسائلاً عن ما هو *العنقريب وما أصله* ، مُرجعاً إياه إلى موطنه الأصلي في بلاد كوش ، وأنه قد وُجِد في إحدى المدن التي ازدهرت في *مملكة كرمة منذ آلاف السنين* ، مُوردا حديثاً لاحد أصحابه ، وهو أكاديمي انجليزي ، يشغل رئيس قسم اللغة العربية بجامعة كامبردج ، وله علاقة وطيدة باليمن  ، مخبراً إياه بأن *أهل سوقطرة* ، وهي جزيرة على بحر العرب ، جنوب اليمن ، يسمون احد *الانجم باسم العنقريب ، وهو نجم الدب الأكبر* ، وقد ذهب البروف مؤيداً لذلك الرأي ، بل زاد عليه بأن الانجم التي وراءه يسميها السودانيون في *إرثهم المُضاع بنات نعش* ، وان *النعش هو العنقريب* ، مؤكدا أيضا بأن العنقريب *موجود في الهند بنفس صفاته السودانية الحالية* ، وموجود في منطقة *تهامة اليمنية* (هذا يزيد القرائن حول صحة فرضيتنا عن التاريخ المتنقل ، وان أهل اليمن ما هم إلا *قبائل كوشية ، هاجرت منذ القدم إلى الجزيرة العربية*) متحسراً على الماضي التليد ، والتاريخ المجهول لهذه البلاد ، التي لم تجد حظها من الإنصاف ..

ورغما عن المعلومات الثرة التي أوردها بروف الطيب ، بأسلوبه السلس الجميل ، وتوضيحه بأن *العنقريب هو النعش* ، وهو مصيب في ذلك ، إلا أنه لم يجب على سؤاله *ما اصل كلمة العنقريب  ..؟*

وللاستفاضة في هذا الأمر أورد الآتي …

عندما كنا صغارا ، يصدف أن نذهب مع المشيعين إلى المقابر ، كنا نتجنب الجلوس على العنقريب الذي حُملت عليه الجنازة بزعم أن *روحه ما زالت ترفرف فوقه* ، وبعضنا يوغل في الادعاء بأن من يجلس عليه سوف *يموت ، أو أن روح الميت سوف تزوره بالليل* ..

وكان يسمى تحديدا *عنقريب الجنازة* (النعش) ، ويوضع *بعيدا عن الجميع لعدة أيام* ، وهناك من العوائل والأسر من كانت تمتلك عنقريباً ًمخصوصا لحمل الجنائز عليه ، وهذا يوضح مدى *ارتباط العنقريب بتشييع روح الميت إلى مثواها الاخير ، وإرتباط الكوشي بذلك*  ..

وإجابة على سؤال البروف الطيب حول *اصل كلمة عنقريب ، نقول ان أصلها كوشي* ما زالت آثاره تتردد في النوبية الحالية وصويحباتها ، إذ يعني السرير في النوبية ، كما وجدت أنه يعني سرير الوالد عن بعض قبائل الامبررو ، ولكنه لا يمثل المعنى الحق الذي عنته الكوشية القديمة ..

*الجذر الرئيس لكلمة عنقريب هو عنق ، اي عنج ، أو عنخ ، أو عنك أو انق ، أو أنك ، او انخ* ..

وهذه الكلمة برسمها ونطقها المتعدد ، في اللغة الكوشية القديمة ، كما في وريثتها النوبية *تعني الحياة ، أو الروح* ..

وقد لا يعرف الكثيرون *أن كلمة انق ، مكونة من جزءين* ، هما *(آن) وتعني إله السماء الحي أو صاحب الروح* ، مبدع الحياة وخالقها ، و *(ق) والتي وعلى حسب تفسيري ، فهي أداة تعريف في اللغة الكوشية* ، مثلما نجد حرف (ن) هو أداة تعريف في بعض لغات اليمن القديمة مثل (رحمن) ، أو حروف التعريف (أم) في بعض اللهجات العربية السودانية ، مثل ام بادر والتي تعني البادر ، وام درمان ، وفي الكوشية نجد مثلا واسووق ، وهو آلة تسوية الأرض ، ومعظم مصطلحات الزراعة ، ومكونات المطبخ الكوشي والنوبي تنتهي بالقاف ، مما يدعم فرضيتي حول أنها *أداة تعريف* ، وهذا أمر ارجو من الباحثين في المجال الكوشي الإلتفات إليه ..

وقد كان الكوشي القديم على *إرتباط وثيق بالروح ، ومتبحراً في عالم ما بعد الموت* ، وقد إهتم به جداً ، خاصة *موضوع الحساب والجزاء ، ومصير الروح ، فأبدع كتاب الموت بهذا الشأن* ، والذي سطا عليه لصوص الحضارة ونسبوه إليهم …

وقد كان الكوشي صاحب *حظ عظيم من العاطفة الروحية ، والتي جعلت منه اول المتصوفيين في العالم* ، وقد إهتم بتنظيم حياة الميت بصورة مثالية ، وعمد إلى *توثيقها في تصاويره على جدران المعابد* ، وعلى توثيقها وتضمينها في *اهازيج زفة الميت إلى العالم الآخر* وهنا يجول بخاطري تلك *القصيدة الرائعة التي ينشدها البعض عند إنزال الميت في قبره* ، (وهو إرث متوارث حتى اليوم ، وحقيقة لا أعرف ناظمها وإن كان يتأرجح بين الشريف الهندي والشيخ محمد عثمان الختم) ..

وقد كان العنقريب احد اهم هذه الوسائل التي تدخل في حياة الميت ، لأنه *النعش الذي يحمل عليه الميت وروحه* ..

وقد ذكر بروف الطيب في حديثه المشار إليه أعلاه ، ان اول من حُمِل إلى قبره على نعش (عنقريب) في الإسلام ، هي *أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش ، كما أفادت بذلك السيدة ام سلمَي* ، تشبهاً بما كان *يفعله الاحباش عند تشييع موتاهم* ، وأوضح البروف أن الحبش المقصودين بهذا الأمر ، هم اسلاف سكان السودان الحالي (اي الكوشيين القدماء) ..

كما أفاد البروف بأن هذا العنقريب يوجد بهيئته الحالية في الهند ، وهو أيضا يؤكد ما أوردته المؤرخة الأمريكية دورسولا هيوستن في كتابها النوبيون العظماء ، على لسان العديد من *علماء التاريخ أن مملكة الكوشيين ، إمتدت حتى الهند الحالية* ، متجليا ذلك في إطلاق العلماء على أكبر اقاليمها إسم هندوكوش ، وأعتقد أنها تسمية موغلة في القِدم …

*واصل الكلمة كما قلت انقريب* ، وهو نطقها بالنوبية اليوم (نجد من المألوف تبادل *إقلاب حرفي الالف والعين* حتى اليوم في عاميتنا السودانية ، وهي اصل العربية الفصحى ، مثل *توت عنخ امون ، وتوت انج أو انق امون*) ، ومثل قولنا سأل وسعل … والسؤال هو طرح الأمر لادراك المعرفة ..

ومن هذا يتضح ، بما ان *انج أو عنج يعني حياة أو روح الحياة* ، وبما لها إرتباط باله السماء آن ، خاصة في رحلة عودتها إليه ، فإن *عنقريب تعني حامل الروح* ، وهو نفس معنى *تشييع الفرد إلى مثواه الأخير* (اي حمل روحه للعبور بها إلى الدار الآخرة حسب الفكر الكوشي المتقدم آنذاك) ..

وهو الأمر الذي جعلنا ونحن صغار نخاف من تلك الروح التي تتحاوم حول النعش ، والتي قد *تكون هائمة ما زالت تتلمس خطاها ، ولم تغادر حاملها بعد (العنقريب)* ..

وكمعادلة بين *الحياة والموت* ، وإذا كان *العقل الكوشي قد إحتفي بنعش الميت اي عنقريب الجنازة* ، فقد أبدع شيئاً آخر *مرتبطا بالحياة وإستمراريتها* في ذات السياق ، الا وهو *عنقريب طقوس جرتق العرسان* ، وهو طقس لا مثيل له في كل العالم ، ولا يوجد إلا في السودان الكوشي …

*والجرتق طقس كوشي قديم متوارث ، يهدف إلى تدشين بداية الحياة في مقابل الموت ، فهو إعلان عن إستقبال حياة جديدة للزوجين ، مأمول منها أن تستمر طويلا ، جميلة خالية من الأمراض والمشاكل ، منتجة لأرواح آخرين “الخلفة “*

*مثلا مكون مادة الضريرة من نبات المحلب والعطور المبهجة المفرحة ، متجاوزا لحنوط الميت المُعلِن عن إنتهاء رحلة الانسان* ، وذلك في صفاء تام ، وبياض أتم *(طقس تبادل شرب ورش اللبن بين الزوجين ، رمز الفطرة السليمة كما قال النبي الكريم)* ، وكل ذلك تحت حماية إله *القمر آمون ، وهو تجلى الله الخفي* ، وذلك بلبس الزوجين *شعار امون وهو الهلال* على جباههما (مكان السجود) ، وهو يحمل إعترافا ضمنيا بسيادته عليهما …

ختاماً نأمل أن نكون. قد قدمنا شرحا مبسطاً لتساؤل بروف عبدالله الطيب عن أصل ومعنى كلمة عنقريب ، *وهو النعش حامل الروح إلى مثواها الأخير* .. ونسأل الله له المغفرة والرحمة والقبول …

والله الموفق

*حيدر التوم خليفة*
اول ديسمبر 2023

الوسوم

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق