محتوى كامل لخطبة الجمعة للشيخ أحمد الجبراوي بالقضارف بعنوان: استقلال السودان وأجنحة الأمل
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة ١٩ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ
*استقلال السودان وأجنحة الأمل*
*محتوى الخطبة*
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين قال تعالى:
“وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ”5 القَصَص
أكدت الخطبة على أهمية تعزيز الأمل برغم جراحات الوطن وانتكاساته وذلك بمناسبة الذكرى التاسعة والسّتين لإعلان الاستقلال السوداني من البرلمان وذلك بمسجد كرري بمدينة القضارف بتاريخ ١٩ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ الموافق ٢٠٢٤/١٢/٢٠م
وذكرت الخطبة أن الأمل هو حُسن الظن بالرب، وهو نور الحياة، وعليه يتأسس المستقبل ويُبنى المجد، وهو قوّة دافعة ورافعة تشرح الصدور، وتنير القلوب، وتنشط الأبدان، وتعلى الهمم
{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 55، 56
ورغم ما كان يحيط بالمسلمين من بلاء وصدّ وتكذيب و تعذيب وغيرِه فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يصنع الأمل ويُحييه في نفوس أصحابه ويَرسم لهم طريق إلى المستقبل وذلك عملاً وإصراراً وعزيمةً وثباتاً وثقةً بالله وتوكلاً عليه يقيناً، به سبحانه قال تعالى: (وَعَسى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَم وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ٢١٦ البقرة وقال (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) ١٠-١١ الأحزاب
تأتي الذّكرَى التاسعة والسّتون لاعلان اسْتِقلالِ السّودان من داخل البرلمان ١٩ ديسمبر ١٩٥٥م لتجدّد الامل وترفرف أجنحته بالرغم ممّا أصابنا من انكسارات وتراجع بسبب الحرب والنزوح وتعطُّل ماكينة العمل وغيرها إلّا أنّ الأمل وحسن الظنّ وخيوط الرّجاء تعمّق إيمان العبد بقرب الفرج وعليه فإنّ ممّا يقوِّي الأمل ويُحييه أمور منها:
١/تعزيز اليقين بالله تعالى وانتظار فرجه فكلّما أشرقت معاني التوحيد بقلب العبد أطلقت يقينَه وحسنَ ظنِّه فلا أمل بلا إيمان وعقيدة راسخة قوية يربو عليها الصغير ويرعاها الكبير فالايمان باعث على النهوض ومعزّز للعطاء (ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب) صحيح البخاري . فلابد من تجذير قيم الايمان وتعظيم الرقابة الايمانية الذاتية والخشية وتذكر الآخرة والاخلاص والصدق والامانة والتعاون وحب الخير فهي عناصر تبني الضمير الوثاب وتحي الواعظ الداخلي و الواقي من الوقوع في الشرور والمنكرات وامتنا احوج ما تكون لهذه المعاني
٢/ أجنحة العدالة وهي اسس للحكم الراشد فترسيخ العدل قيما ونظاما ومنظومات من اهم ما نبني به نظامنا ونثبت به أركانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء : 135: وعليه فالعدل الذى هو أساس الملك عام ينتظم حياة العبد كلها والقيام به من أسباب السعادة والعلوّ و النّصر فهو صمام أمان للمجتمعات
٣/الصبر وعدم الاستعجال فعندما جاء خباب بن الأرت رضي الله عنه يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقاه من تعذيب المشركين، زرع النّبي صلى الله عليه وسلم فيه الأمل قائلًا: ((والله لَيُتِمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) البخاري وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ ١٤٦ آل عمران
٣/الدعاء والاعتصام بحبل الله، والاستقامة على دين الله وكل هذا نجده في قصة موسى في مواجهة طغيان فرعون: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ طه 24-26 ظل فرعونُ عامًا وراء عامٍ يستضعف بني إسرائيل؛ يقتل، ويستعبد، ويظلم، حتى بعث الله نبيه موسى عليه السلام؛ لدعوة فرعون إلى الله، فقام سيدنا موسى يدعو فرعون وملأه، لكنهم استكبروا وجحدوا، كل هذا وسيدنا موسى لم ييأس، حتى جاءه نصر الله؛ فنجى المؤمنين وأهلك الظالمين فلا أمل إلّا بالاستعانة بالاه تعالى
٥/أهمية تقوية وتمتين البناء الوطني وتجسير التواصل ببن أبناء الشعب الواحد
قال رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب في مجلة النهضة عام 1932م ( ليس أدْعَي إلى الألم و الابتئاس من فقدان الشعور القومي في بلد تتوفر فيه كل دواعيه, و هذا البلد هو الإقليم المنكود الذي نسكنه , و بيننا علاقات الموقع الجغرافي و الجنس و الدين و اللغة, و ليس لنا من الشعور ما يجعلنا نحس هذه الوحدة و نحترمها). فلابد من العمل للخروج من بؤس هذا الحال الذي رسمه رئيس الوزراء المحجوب بابتناء قومية تتسامى على انتسابنا المناطقي والقبلي والحزبي والّا فستستمر معاناة هذا الوطن وبنوه أشدّ المعاناة وهو أمر يحتاج لتضافر الجهود والمقدرات والوسائل كافة
٦/ أهمية بناء استراتيجية قومية في محاورها المتعددة بتوافق وطني عال ورغبة في التنفيذ وتنازلات كبيرة لصالح الوطن حتى نخرج من التخبط والتيه وصولا للسير على هدى.
واجتماع الكلمة والتوافق وألفَة القلوب جسر مهم للبناء والعروج الحضاري وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ” ١٠٣ آل عمران وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ” ٢ المائد
٧ / أن حسن ادارة التنوع الذي تمتاز الأمة السودانية في الانتماءات الاثنية والتي تمثل عنصر قوة كما عبّر عنها روبرت هاو الحاكم البريطاني للسودان في حفل وداعه في العام 1954م بقوله :ـــ ( إنكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها ، وفي غرب البلاد وشرقها شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة وهذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة ، وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف وقد تُمثل نقطة قوة إذ أن التنوع يولد حيوية عظيمة وقد تمثل نقطة ضعف إذ أنها قد تفضي إلى نزاعات مدمرة). فإذا أحسنا ادارته وتوظيفه غدا قوة لا يُستهان بها وإلا فانّه سيمسي نقطة ضعف تعوّق بناء الأمّة ويعوّق مسيرتها نقول هذا وقد جاء الوعيد بالدعوة للعصبيات ففي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية))
٨/ان سر النهضة بعد تعزيز القيم هو التوظيف الأمثل للمقدرات والموارد التي يذخر بها الوطن وعليه فلابد من مواجهة واقعنا الذي لا يزال 65% من سكان السودان تحت خط الفقر و 75% من السكان ينفقون دخلهم على الغذاء وارتفع معدل البطالة على 40% قبل الحرب وتضاعفت هذه الأعداد بعدها فالحاجة اليوم الى اطلاق الامل بالقيادة الملهمة الناجحة التى تفجر الطاقات وتحقق الأمنيات .
قال تعالي:- ” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) ” نوح .
٩ /ان قوة الدولة بعد معونة الرب في جيشها القوي المحافظ على أمنها القومي والذي ظهر جليا من خلال الحرب مقدراته على تجاوز الأزمة في مفاجأتها الأولى ومرونة عالية بعد استمرارها مما يعني ان الأمل معقود بمزيد من تحقيق المكتسبات ببنائه وتقويته ونظائرهمن الأجهزة النظامية المعينة سيما وأن بلادنا معقدة التضاريس واسعة الحدود ومعرضة للتنازع الداخلي وتجاذبات الاعداء وتزايد المطامع بسبب وفرة الموارد
قال تعالى:-“الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ” ٨٢ الانعام فالتوحيد مفتاح للأمن والتعايش السلمي .
١٠/ان اختيار اهل الكفاءة والأمناء هو من آكد معززات الامل لبناء الدولة وتأسيس بنيانها قال تعالي:
” قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ” القصص (26) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ولي من أمر المسلمين شيئاً ، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه ، فقد خان الله ورسوله) رواه الحاكم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين)
١١ /يأخذ تحقيق السلم المجتمعي أهمية قصوى لتحقيق الامال والطموحات فالخلاف والحرب والتنازع مثبطات عن التنمية والنهضة وعليه لابد من تعزيز ذلك بالحوار البنّاء الهادف بركائزه واهدافه الواضحة والتجرد والارادة وتقديم العام على الخاص لسلام تتحقق به الأماني ويُذهِب القطيعة الوطنية ويكون جسرا للتنمية المتوازنة مراعاة لمناطق الحرب والهشاشة بمظلة وطنية خالصة بعيدا عن استقطاب الخارج واغراءاته وعليه
١٢/ ان من اهم اجنحة الأملَ هو تقوية وتطوير قطاع السباب الشباب لانه معول النهضة وأساس البناء ويمثل مفتاحا للمستقبل ونحمد الله أن ٦٠% من سكان السودان تقل أعمارهم عن ٢٤ عاما وهذا رصيد مهم بتوظيفه وربطه بقيم الدين ومعالى الاخلاق و الوطنية واتحنا له الفرص لقيادة الحياة واحطناه بالحماية مما يعيق عطاءه من مغيبات العقل المعنوية والمادية ومفسدات الحياة وسفاسف الشواغل والملهيات ليغدو ناضجا واعيا وثّابا طموحا مبتكرا مبادرا فلابد من إيلاء الشباب اهتماما أكبر وهم يمثلون اكثر من نصف الحاضر وكل المستقبل .
*وبعد* :
فإن مساحات الرجاء واسعة وبوابات الأمل مشرعة للمزيد من العمل والعطاء وحين الادارة والتوظيف والسمو والهمة العالية وتحديد الهدف والله الهادي والمدبر العليم اللطيف والحمدلله رب العالمين .
أحمد حامد الجبراوى
المحامي
القضارف
١٩ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ