ياسر الفادني يكتب في من أعلى المنصة: سردية الأهزوجة والتنغيم … الشاعر عبدالحليم سر الختم نموذجًا

من أعلي المنصة
ياسر الفادني
سردية الأهزوجة والتنغيم … الشاعر عبدالحليم سر الختم نموذجًا
تأتي قصيدة الشاعر عبدالحليم سر الختم إبن مدني ، (دفقة حنين ) ….كنبضٍ دافقٍ من الحنين، حيث ينسج نسيجًا متماسكًا من العاطفة والوجدان، يجمع فيه بين نبرة الشوق الموجعة وإيقاع الأهزوجة المتراقصة بين النغم والأنين، إنها ليست مجرد أبيات، بل هي نشيدٌ مترفٌ بالأسى الجليل، حيث يتوحد الصوت والروح في انسيابٍ شعريٍّ بديع، يكشف عن ولعٍ متأصلٍ بالمكان وافتقادٍ قاسٍ لوهج الذكريات
يبدأ النص بتصوير صراع الذات في غياب ود مدني، حيث تتحول الحياة إلى حالة من التوجع الدائم، فالنهار نجوى والليل مسرحٌ للشجن، وكأن الزمن صار مرآةً للوجع العالق في الروح، يعزز التكرار المتواتر للصيغ الإنشائية مثل “أحِنُّ إليكِ” حالة الانجذاب القهري، فتغدو القصيدة أشبه بأهزوجة وجدانية تتكرر بإيقاعٍ عاطفيٍّ عذب
تتجلى براعة التصوير الفني في التراكيب المنتقاة بعناية، حيث يذوب المجاز والاستعارة في انسيابية التدفق العاطفي. ففي قوله: “وترحل بي خيالاتي لربعٍ شيد بالسُننِ”, لا يصف المكان بوصفٍ مباشر، بل يمنحه بعدًا قدسيًا، كأن القيم والأخلاق هي التي بنت المدينة وتتجلى النزعة الأخلاقية حين يصور ود مدني رمزًا للوفاء رغم جحود البعض، ليبرز المفارقة القوية بين العطاء والجحود، مؤكدًا أن عظمتها تكمن في نقائها واحتضانها للناس
عاطفيًا، تتماوج القصيدة بين المد والجزر، فيفيض الشاعر وجداً ويبلغ ذروة الشغف، ثم ينخفض إيقاعه في استكانةٍ أشبه بالانكسار. ففي قوله: “أحِنُّ إليكِ في ولهٍ حنينُ الوُرقِ للوُكُنِ”, يستحضر صورة العصفور الباحث عن مأواه، ليجعل الحنين كيانًا ملموسًا يُحَسُّ به ولا تنفصل موسيقية النص عن هذه العاطفة الجياشة، حيث تمنح الأفعال المضارعة المتكررة حركةً مستمرة، كأن الشاعر في حالة مناجاةٍ لا تهدأ، مما يضفي على النص طابعًا إنشادياً أقرب إلى الأهازيج الشعبية
إني من منصتي أقرأ …حيث أتحسس هذه القصيدة العصماء التي يرتفع فيها صوت الرجاء كأن الشاعر يستنطق القدر ليعيده إلى مدينته، ليغسل عنها دموع الحزن، ويمنحها أغنيته التي طالما انتظر أن يؤديها وهكذا تأتي القصيدة كنموذجٍ فريدٍ لسردية الأهزوجة، حيث تمتزج العاطفة بالموسيقى، ويتداخل البيان بالتنغيم، ليخلق فضاءً وجدانيًا تتعانق فيه الكلمات مع الألحان، ويصبح الحنين لغةً مستقلةً تنطق بها الروح قبل أن تنسجها الحروف ، أطال الله عمرك أستاذي عبد الحليم سر الختم ومنحك الصحة والعافية .
نص القصيدة ………
دفقة حنين .. أهزوجة لأم المدائن ود مدني
عبدالحليم سر الختم
بعيداً عنكِ وَد مَدني
أُكابد قَسوَةَ الزَمنِ
نهاري كُلُه نَجْوى
وليلي مَسرَحُ الشَجنِ
ويُبكيني صَدى الذِكرى
بدمعٍ حارِقٍ هَتِنِ
وترحلُ بي خيالاتي
لربعٍ شيد بالسُنَنِ
حباهُ الله بالأغلى
من الآلاء والمِننِ
بقومٍ عفَّ جوهَرُهُ
معن البَغضاءِ والإحَنِ
فما يَنطِق لَهُم لفظٌ
سوى بالخيرِ والحَسَنِ
تؤلفهُم شهامَتُهم
لدى الأفراحُ والمِحنِ
كرامٌ أرضُهم نَسجَتْ
غُزُول اللونِ والسِحَنِ
فما ضَاقَت بمن جاءوا
رجاءِ الرِزقِ والسَكنِ
وكَمْ صَبرت على ظُلمٍ
لدرءِ الشَرِ والفِتنِ
وكم جادَتْ وما بَخِلتْ
بلا مَنٍ ولا ثَمنِ
أحِنُ إليكِ في لَهفٍ
حنينُ الجَدبِ للمُزُنِ
أحِن إليك في شغفٍ
حنين العين للوَسَنِ
أُحِن إليك مُلهِمتي
ومن إلاكِ يُلهمني
أحِنُ إليكِ في سري
أُحن إليكِ في عَلني
فدفقُ عواطفي يجري
على شوقي يُنافِسُني
ويَهتفُ صوتُ آمالي
عسى الأيامُ تُسعِدُني
أعودُ لداريَ الثكلى
لأمسحَ دَمعةَ الحَزَنِ
وأُنشِدُ فيك أُغنيةً
لوِ الأوتارُ تُتحِفُني