مهند خبير يكتب: اتفاق جوبا للسلام … بين الحلم الجميل وواقع التنفيذ المر

اتفاق جوبا للسلام … بين الحلم الجميل وواقع التنفيذ المر
حينما خرج الشعب السوداني في ديسمبر المجيدة، رافعًا شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، كان الأمل في أن تؤسس الثورة لوطن جديد، يُعلي من كرامة الإنسان، وينصف الهامش الذي ظُلم طويلًا.
وكان من ثمرة تلك الثورة توقيع اتفاق جوبا للسلام، والذي فتح الباب أمام عودة الحركات المسلحة إلى العملية السياسية، ومنح الأقاليم، ومنها إقليم النيل الأزرق، حُكمًا ذاتيًا بصلاحيات واسعة، طالما نادى بها أهل الإقليم كحقٍ لا منّة.
وبموجب هذا الاتفاق، عادت الحركة الشعبية – شمال (جناح مالك عقار) إلى الحكم في النيل الأزرق، وسط التفاف شعبي واسع، وتفاؤل بمستقبل أفضل. وكان الاتفاق حينها خطوة تاريخية تُحسب للحكومة الانتقالية، وللقيادات التي ساهمت في دفعه، خاصة من أبناء الإقليم الذين خاضوا مفاوضاته بحبٍ للوطن وشغفٍ بالعدالة.
كنت شخصيًا أحد من واكبوا هذه اللحظات، وسعيت مع آخرين إلى إدخال مكاسب حقيقية لشعب الإقليم ضمن بنود الاتفاق، منها التمييز الإيجابي في التوظيف، وحصة الإقليم من الموارد، وأولويات التنمية في الكهرباء والمياه والتعليم، وغيرها.
لكن، وكما هي عادة الأحلام الكبيرة، اصطدمت بجدار الواقع القاسي…
مقدمات لا تُبشّر بالخير
البداية كانت مع وفد المقدمة، الذي كان منوطًا به التبشير بالاتفاق، وشرح بنوده للمواطنين، وتعريفهم بما تحقق لهم من حقوق.
ولكن للأسف، بدا أن الوفد اكتفى بالإقامة في فندق قصر السلام، ولم يكلف نفسه عناء التجوال في القرى والفرقان والمناطق المهمشة، التي هي أصل القضية وروح الاتفاق.
في كل فترة وجود الوفد داخل الدمازين – عاصمة الإقليم – لم تُعقد سوى ندوة يتيمة في نادي النهضة. كنت شخصيًا منسقًا لتلك الندوة، مشاركًا في الإعداد، ومقدمًا للمتحدثين، لكن الندوة لم تكن كافية لتُحدِث أثراً، لا من حيث الحضور، ولا من حيث التفاعل الشعبي.
وللأسف، لم تُبذل أي مجهودات لاحقة لتعويض هذا القصور الإعلامي والتوعوي. فبقي الاتفاق، بكل ما يحمل من بنود مهمة، طيّ الأوراق، دون أن يعرف عنه غالبية المواطنين شيئًا.
الاتفاق… الذي لا يعرفه أحد
إذا ما سألت أغلب الناس في الإقليم اليوم عن اتفاق جوبا، فإن معظمهم لا يعرف سوى بندين:
الحكم الذاتي،
و40% من الموارد.
أما البنود الأخرى، التي تمثل جوهر الحكم الرشيد والعدالة الانتقالية، مثل:
التمييز الإيجابي في الخدمة المدنية والتعليم العالي،
مشاريع الري والتنمية الزراعية،
أولوية أبناء الإقليم في استهلاك الكهرباء وتوزيعها،
نِسَب تمثيل الشباب والنساء في القنصليات والبعثات الدبلوماسية،
فلم تجد حظها من التنفيذ، ولم تُفعل على الأرض، وكأنها لم تُكتب أصلاً.
ما السبب؟ الفشل الإداري أم غياب الإرادة السياسية؟
يمكن القول إن واحدة من أبرز مشكلات الاتفاق كانت في ضعف الإرادة التنفيذية، وغياب آليات الرقابة الشعبية.
الاتفاق نص على سيادة القانون، الحكم الرشيد، حرية الوصول إلى المعلومات، والمسؤولية والمساءلة، لكن أيًا من هذه المبادئ لم يجد طريقه إلى الممارسة اليومية.
حكومة الإقليم التي تشكّلت لاحقًا، وعلى رأسها أحمد العمدة بادي، فشلت في تحويل نصوص الاتفاق إلى واقع معاش، وفشلت في كسب ثقة الشارع، مما أدى إلى تآكل شعبية الحركة الشعبية نفسها، حتى بين من ناصرها في فترات الحرب.
هذا الفشل لم يكن بسبب نصوص الاتفاق، بل بسبب غياب الكوادر القادرة على قيادة مرحلة تنفيذ السلام، وسوء التواصل مع الجماهير، وترك الساحة لخطاب الإحباط والتشكيك، دون وجود خطاب تعبوي حقيقي يدافع عن جوهر الاتفاق.
الفرصة لم تضع بعد… ولكن!
رغم ما سبق، لا تزال الفرصة قائمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاتفاق.
فالوثيقة نفسها قوية، والبنود التي تتحدث عن الحقوق والتمثيل والمساءلة واضحة وقابلة للتنفيذ.
المطلوب فقط هو:
إرادة سياسية جادة،
إدارة شفافة ومؤهلة،
وإشراك حقيقي للمجتمع المدني والشباب في مراقبة تنفيذ الاتفاق.
كذلك، من المهم إعادة صياغة خطة إعلامية متكاملة، تهدف إلى نشر ثقافة السلام والحقوق بين المواطنين، عبر وسائل الإعلام المحلية، والندوات الجماهيرية، والتواصل المباشر.
في الختام…
اتفاق جوبا للسلام في النيل الأزرق كان حلمًا كبيرًا، وحُقّ لأهله أن يفرحوا به.
لكن الأحلام وحدها لا تصنع التغيير، ما لم تتحوّل إلى خطط قابلة للتنفيذ، يقودها أصحاب كفاءة، ويُحاسب فيها المسؤول، ويُحترم فيها صوت المواطن.
إما أن نعيد البوصلة، أو نترك الحلم يتبدد… ويكون بذلك قد ضاع منا سلامٌ، دفعنا من أجله سنوات من الدم والمعاناة