ابراهيم شقلاوي يكتب في وجه الحقيقة: أوراق البرهان… رسالة لا تقرؤها العواصم

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
أوراق البرهان… رسالة لا تقرؤها العواصم!
يواجه السودان لحظةً مفصلية في تاريخه السياسي والعسكري، بالتوازي مع تحولات إقليمية معقدة تضعه أمام خيارات دقيقة وفرص استراتيجية يتوجب توظيفها بذكاء على طاولة القمة العربية المرتقبة في بغداد يوم 29 مايو القادم. فبينما تواصل ميليشيا الدعم السريع أعمالها العسكرية ضد الأهداف المدنية، وتشتد التوترات مع بعض الأطراف الإقليمية، بدأ المشهد السوداني يأخذ بُعدًا جديدًا يتجاوز منطق المواجهة إلى محاولات رسم ملامح ما بعد الحرب.
في هذا المقال نسلط الضوء على أوراق الرئيس البرهان التي تتجاهلها العواصم، إما عمدا أو بناءً على تقديرات يعلمونها، رغم أنها يجب أن تظل على الطاولة لفهم المشهد السوداني بموجبها.
في أحدث ظهور له، بدأ رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، واثقًا وهو يخاطب السودانيين من بورتسودان، العاصمة المؤقتة للبلاد، متحديًا الاستهداف المستمر بالطيران المسيّر، ومؤكدًا اقتراب النصر على الميليشيا وداعميها الإقليميين. هذه النبرة الواثقة ترافقت مع تحركات دبلوماسية تعبّر عن بداية تحول في استراتيجية الخرطوم، من التركيز على العمليات العسكرية إلى تعزيز الحضور السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية والعربية. وجاءت بعده خطوات دبلوماسية مدروسة، من بينها إرسال برقيات تهنئة إلى بابا الفاتيكان الجديد عقب تنصيبه، وكذلك تهنئة باكستان والهند على وقف الحرب واستعادة الأمن، في محاولة لإبراز السودان كدولة تسعى للسلام والحوار.
غير أن المسألة تتجاوز المجاملات الدبلوماسية، إذ إن القمة القادمة في بغداد ستكون ساحة لصراع ناعم بين السودان وبعض الدول العربية، وعلى رأسها الإمارات، التي وصفها مجلس الأمن والدفاع السوداني بأنها “دولة عدوان”، بعد اتهامها المباشر بدعم ميليشيا الدعم السريع. هذه التسمية تستند إلى معطيات ميدانية، أبرزها الغارات الجوية الانتقامية عبر طائرات مسيّرة استهدفت بنى تحتية سودانية، ردًا على الضربة الجوية التي وجهها الجيش السوداني لمطار نيالا، والتي قضت عمليًا على حلم إقامة دولة موازية للميليشيا.
وبينما تتباين الآراء بشأن مستوى تمثيل السودان في القمة، فإن الخيار الأكثر نجاعة يبقى في مشاركة البرهان نفسه، لإيصال رسائل واضحة ومباشرة إلى الأطراف الإقليمية والدولية. من جهة، يمكن للسودان أن يدفع نحو إدانة عربية صريحة للعدوان الإماراتي في البيان الختامي، ومن جهة أخرى، يمكنه استخدام موقعه الجيوسياسي كورقة ضغط لفرض واقع جديد في العلاقات مع الدول العربية، لا سيما السعودية، التي يربطها بالسودان شريان الأمن في البحر الأحمر.
لذلك تُعدّ الورقة الأمنية الأهم على الطاولة، فالسودان قادر على إعادة ترتيب تحالفاته بشكل دراماتيكي قد يخلط أوراق الجميع إذا استمر التآمر عليه أو تم تجاهل احتياجاته الدفاعية. فالمطالب السودانية بتمويل طيران حديث، بجانب منظومة دفاع جوي متقدمة، ضرورة استراتيجية في ظل التصعيد الجوي المستمر. وقد تجد الخرطوم نفسها مضطرة للرد بفتح المجال أمام روسيا لإنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر مقابل التسليح الحديث وربما الحماية، أو تفعيل الاتفاقات السابقة مع تركيا في جزيرة سواكن، وهو ما قد يُحدث تحولات جذرية في ميزان النفوذ الإقليمي في المنطقة.
إلى جانب ذلك، يحتفظ السودان بورقة اقتصادية ثقيلة الوزن. فالثروات الطبيعية الهائلة التي يزخر بها البلد لا تزال تُستغل خارج أطر الشفافية والعدالة في تقاسم الفرص، حيث تستحوذ بعض الدول على المواد الخام وتُعيد تصديرها بأسعار باهظة. ولعل القمة الاقتصادية التي تُعقد بالتوازي مع القمة السياسية تمثل فرصة ذهبية للخرطوم لطرح رؤية متكاملة لإعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية داخل النظام العربي، تتضمن مشروعات تنموية تعزز الأمن الغذائي والطاقة وتقلل من التبعية للأسواق العالمية. كما تبرز الصين كشريك محتمل للسودان قد يغيّر من معادلة استنزاف الموارد السودانية لصالح اقتصاد تشاركي قائم على تبادل المنافع وتعزيز المصالح مع احترام سيادة الدول، وقد أثبتت التجربة نجاحها في عدة بلدان.
ولا يغيب عن المشهد البُعد الحقوقي والدبلوماسي، إذ لا تزال شكوى السودان ضد الإمارات أمام الأمم المتحدة ورقة قابلة للتفعيل في الوقت المناسب. كما أن تنامي الغضب الشعبي في السودان تجاه أبوظبي قد يتحول إلى عبء أخلاقي على باقي الدول العربية، في حال استمر الصمت تجاه ما يحدث.
وفي ظل استمرار حالة الحرب، فإن أحد أخطر السيناريوهات التي قد تواجه السودان والمنطقة هو انهيار الدولة السودانية، وما قد يترتب على ذلك من صعود قوى متشددة ليست لها خبرات سياسية أو تنظيمية سابقة. هذه القوى الجديدة قد تكون البديل الوحيد في ظل الغبن الذي يشعر به الشعب السوداني تجاه التدخل في شؤونه الداخلية، وستسعى لتوظيف حالة الغضب الشعبي ضد الإمارات وداعميها، وقد تجد في دول مثل إيران شريكًا استراتيجيًا جاهزًا لملء الفراغ. بما تمثله من نموذج متقدم في الصناعات العسكرية ، وهو ما قد يتم الاستفادة منه في حال استمرار تجاهل الدول العربية لمطالب السودان الأمنية، وحينها قد تمضي الخرطوم في محاولات امتلاك ترسانة صاروخية رادعة لحماية أمنها .
هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن القمة العربية القادمة تشكل منعطفًا حاسمًا للسودان، ليس فقط لإثبات شرعية موقفه السياسي والعسكري، بل أيضًا لتشكيل جبهة دعم عربية تنقله من مربع الصراع إلى مربع الاستقرار وإعادة البناء. السودان لا يدخل هذه القمة متوسلًا، بل محصنًا بجغرافيا ذات أهمية استراتيجية، وبأوراق ضغط، إن أُحسن استخدامها، ستجبر الخصوم على التراجع، والحلفاء على مراجعة مواقفهم.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 13 مايو 2025 م Shglawi55@gmail.com