ياسر الفادني يكتب في من أعلى المنصة: إنها المناقل يا سادة… حين تصير المدن سِفراً من الكبرياء

من أعلي المنصة
ياسر الفادني
إنها المناقل يا سادة… حين تصير المدن سِفراً من الكبرياء
ليست المناقل مجرد مدينة على خارطة الوطن، بل روح متقدة تسري في عروق الأرض، وضمير جماعي لا ينام، حين توارت المدن خلف دخان النزوح وضجيج الفقد، تقدّمت المناقل الصفوف، لا تطلب الأمان لنفسها، بل تمنحه لغيرها. فتحت قلبها لـ٣٣ ألف أسرة، كما تُفتح البيوت وقت الحريق… بلا سؤال، ولا منّ
الإنسانية فيها لم تكن شعاراً مستهلكاً، بل سلوكاً يومياً متأصلاً، تشهد عليه الأزقة والحارات، وتشهد عليه دموع الأمهات في ليالي النزوح الطويلة، المحلية مدعومة بالمنظمات، لم تُدار ظهرها للمحنة، بل تقدّمت حيث تراجع غيرها، وانتشلت البيئة من رماد الحرب، علّ النقاء يعود ولو قطرة
ثم جاء تحرير مدني، ومعه التحدي الأكبر، الذي تحمّله المدير التنفيذي للمحلية بشجاعة رجل يقود بلا تردد: إعادة الكرامة المبدّدة إلى أهلها. فسُيّرت ١٢٠ رحلة نحو المدينة، و١٢٧ بصاً إلى جنوب الجزيرة، بأكثر من ٥٠ مليون جنيه، دفعتها قلوب لا تعرف الحسبة، ولا تسأل كم تبقّى في الجيب، وامتد الجهد كذراع لا تنكمش، إلى الحصاحيصا، شرق الجزيرة، ثم الخرطوم، حيث نُفذت ٤٤ رحلة بتكلفة قاربت ٣٥ مليون جنيه، ليلتم الشمل، وتُرفع رؤوس شُردت ولم تنكسر
وفي ميدان الأمن، رفعت المناقل راية لا تُنكّس، ساندت المجهود الحربي كأنها جزء من خندق المعركة، لا مدينة خلفية، وفي الصحة، خاضت معركة خفية ضد بقايا النزوح: فحُملت المكانس بدل البنادق، ونُظّفت الآبار بيدٍ نظيفة وروح لا تهدأ
أما التنمية، فكانت فعلاً لا وعداً، نُصبت ١١٨ منظومة طاقة شمسية في كل ناحية، وضُخّت ٢٥٠ مليار جنيه لعلاج الجرحى ورعاية أسر الشهداء، مستشفى الكلى ظل يتغذّى شهرياً بـ١٦ برميلاً، فيما أُنجز مشروع طاقته الشمسية بـ١٧٥ ملياراً. ليست أرقاماً تُرمى على المايكروفونات، بل حقائق تُدوَّن في سجل شعب لا يُهزم
وفي ذروة الألم، شُيّد مركز البلهارسيا والمناظير بجهد شعبي خالص، وأُعيدت المدارس إلى نبضها بعد أن كانت مأوى للنازحين، أما امتحانات الشهادة الثانوية فكانت ملحمة أخرى، كتبتها الجموع بالعلم في حضرة البنادق
وإذا أردنا أن نُترجم الكرم إلى شخص، فلا نجد أفضل من الشيخ عبد المنعم أبوضريرة، ذاك الجبل الذي أنفق بلا أن يلتفت، وتقدّم دون أن يُطلب، تبرع من حرّ ماله بمسيرات لا تُحصى دعماً للمجهود العربي، وفتح أبوابه للجوعى والمحتاجين كأنه ضمير المدينة لا مجرد فرد فيها، هو رجلٌ إذا غاب حضر ذكره، وإذا مات ظلّ يُروى فعله، المال يفنى، والناس ترحل، لكن الإرث الطيّب لا يُهزم
اللجنة الأمنية لم تهدأ لها عين، تتابع وتُخطط وتُقاتل، حتى صارت جداراً تتكئ عليه المدينة في العتمة، ومعركة المدينة عرب كانت سِفراً من الكبرياء، فيما كانت معركة الكرامة في المناقل عنواناً للعطاء وللفداء ومشهداً لوطن ينهض من بين الأنقاض
لم تكتفِ المناقل بإيواء النازحين، بل مدّت يدها إلى التعليم، وأقامت التكايا، وبنت ١٧٦ منزلاً للمتضررين من الفيضانات، لم يكن ذلك تفضلاً، بل ردّ دين، وسداد واجب، ونُبل شعب لا يتاجر بوطنه، بل يسكنه
اني من منصتي…. أقف وقفة إجلال لحكومة ولاية الجزيرة، التي حضرت بالفعل لا بالتصريحات، وللوالي الذي سار بالسفينة وسط الطوفان كأنه يحمل أمة لا ولاية
إنها المناقل يا سادة… المدينة التي لا تكتب التاريخ بالحبر، بل بالدم والعرق والعزة. مدينةٌ حين تنهض، تهتف كل الحروف: هذا هو السودان الذي لا ينكسر.