د. بابكر عبد الله محمد يكتب: ((نحو منهجيات قاصدة لتجديد الفكر الاسلامي )) مراجعة و نقد موضوعي للصوفية والتصوف في السودان (( ٤ )) المنظور التربوي ومحور العبادات عند أهل التصوف
بسم الله الرحمن الرحيم
(( نحو منهجيات قاصدة لتجديد الفكر الاسلامي ))
مراجعة و نقد موضوعي للصوفية والتصوف في السودان (( ٤ )) المنظور التربوي ومحور العبادات عند أهل التصوف
المنشور السادس
الاثنين ١١ نوفمبر ٢٠٢٤م
مواصلة للمنشورات حول بناء منهج سليم للتصوف ما زلنا في تناول هذا الموضوع الهام في ظل غياب منهج ومبادئ أساسية يرتكز عليها اهل التصوف في السودان ..لقد أشرت في المنشور السابق الي اثر الفلسفة الصوفية في البناء التوحيدي لأهل التصوف واثر ذلك علي نظرتهم للفلسفة التي تفسر الظواهر الكبري ممثلة في القران الكريم والحديث النبوي الشريف ..واشير الي قول الفيلسوف دكتور محمد إقبال حيث نال الرجل درجة الدكتوراة من احدي الجامعات في ألمانيا ويشير الي أنه(( لم تبهره حضارة الغرب بكل المادية المترفة فيها والسبب انه اكتحلت عيينيه بثرمد النبي صلي الله عليه وسلم )) وفي هذا اشارة ذكية الي مقارنة عروج النبي عليه الصلاة والسلام الي سدرة المنتهي ، وبين سفره لدول اوربا الغربية حيث أن نظره للماديات لم تجعله ينهزم أمام المادية الطاغية في الغرب ويكفيه ان يستشهد فقط بعروج النبي صلي الله عليه وسلم حينما عرج الي سدرة المنتهي ثم لم يشغله ذلك بالنظر الي ما حوله من مشاهد لا نستطيع تخيلها حيث خاطبه رب العزة والجلال والجلال بوصف دقيق ( مازاغ البصر وما طغي ) وهي تمثل قمة الروحانيات دون المشاهدات الحسية ..التي يبحث عنها اعلام وشيوخ ورموز المتصوفة …ويقول محمد إقبال في منحي اخر (( ان الدين لا يتاتي بمطالعة الكتب فحسب وإنما لابد من قدوة وقدوة الدين هم أرباب العشق )) وارباب العشق لاشك في ذلك انهم هم سادات و مشائخ الطرق الصوفية بلا خلاف في ذلك ..ولعل مدخلي الي ذلك من هذا الباب ونشير اليوم الي واحد من اعلام المتصوفة والذي يمثل حيزا كبيرا في تكوين مورثات الدين لبناء الطرق الصوفية في السودان واصبح لهم اثر سياسي واجتماعي كبير للغاية ونستثني من ذلك طريقتين هما الطريقة الختمية وطائغة الانصار ليس تقليلا من ادوارهم التاريخية في البلاد من الناحية السياسية والاجتماعية في البلاد ولكن نترك اثار هاتين الفرقتين لتحليل ونظر القارئ الكريم …ونبدأ اليوم بالاكثر تاثيرا :
١/ بالطريقة السمانية واثرها الكبير في السودان ..كيف أتت للسودان تشير العديد من المصادر التاريخية ان جذور هذه الطريقة الصوفية تعود الي الشيخ /محمد بن عبد الكريم السمان: وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان القرشي البكري الصديقي، الصوفي المدني الخلوتي القادري الشاذلي، شيخ الطريقة السمانية، وقد وُلِد سنة 1130 هـ/1718 م، ونشأ الشيخ السمان بالمدينة المنورة، وتعلّم فيها على يد كبار العلماء، وقد تبحر في مذهب الإمام الشافعي، وأرسله والده إلى مصر فتلقته بكل ترحاب . ومن الملاحظ في تعريفة انه (الخلوتي) وفي هذا دلالة الي انتشار الطريقة الخلوتية في شمال كردفان و(القادري) نسبة الي الشيخ / عبدالقادر الجيلاني وهو ( الشاذلي ) وفي هذا إشارة الي الطريقة الشاذلية .فلذلك هذه الطريقة عرفت علي الأكثر بالطريقة الشاذلية .وعرفت ايضا بالطريقة القادرية السمانية ..اضافة الي ذلك أن اغلب الشيوخ الذين نهلوا من علمها علي يد.الشيخ احمد الطيب البشير بام مرح شمال امدرمان …والذي نال العلم من الشيخ محمد عبدالكريم السمان بالمدينة المنورة .
وانتقلت الطريقة من شمال امدرمان منطقة ام مرح انتقال داخلي الي منطقة ودنوباوي وسط امدرمان حيث اسس الشيخ قريب الله والد الشيخ البروفسور حسن الفاتح الشيخ قريب الله مسيدا ومسجدا ..ولكن الذي اريد الإشارة اليه في ذلك هو ارتباط هؤلاء المشائخ بالعلماء الذين أخذوا العلم منهم …وبالتالي تتضح ان القدوة هي الأساس في التربية الروحية والتعبد وانماط الذكر وطريقة اداء العبادات كافة وأهم ما يميز علماء التصوف في السودان هو التواضع والزهد.وبذل النفس بالعطاء والسخاء والكرم ..وحرصهم علي تعليم القرآن الكريم وعلومة وانتقاله من مركز او من منطقة الي اخري …كما شكلت الطريقة انتقالها عن طريق الشيخ محمود ود نورالدائم الي منطقة وسط الجزيرة وسميت المنطقة بطابت الشيخ عبدالمحمود نورالدائم وابرز مشائخها من العلماء الشيخ الحبر العالم / الجيلي عبدالمحمود والذي تخرج في جامعة الخرطوم واصبحت طابت بعلمه مركز إشعاع علمي وتشتهر بكثرة العلماء وشعراء التصوف..وكانت الانتقالة الكبري بقيادة الشيخ عبدالرحيم بن الشيخ وقيع الله في شمال كردفان .و لهذا الشيخ الذي تلقي تعليمه في البداية علي يد والده الشيخ وقيع الله صولة وجولة في تحفيظ القران ونشر الهداية في اقليم كردفان ودارفور …وكان الشيخ عبدالرحيم قد تلقي العلم علي يد الشيخ عمر محمد احمد المعروف برجل الكريدة وكان لهؤلاء المشائخ الكبار الفضل في تعليم القرآن لتلاميذ القرآن علي ثلاث روايات هي رواية ورش والدوري وعاصم بن عمر وهي اكثر الروايات انتشارا في السودان . ولذلك انتقلت الطريقة من موقع الي اخر او من قرية الي قرية اخري.وبهذه الانتقالات تحقق امر تجديد هذا الدين واتاحت فرصا للمجتمع الجديد ان يبرز منه تلاميذ ومشائخ جدد مثل العلم الشيخ / ا . عبدالمحمود الشيخ الحفيان الذي ولد.في قرية ام دبيب والتي كان يكثر بها الثعابين .وترعرع العالم واستقر به المقام فيها وانشا فيها المسيد وبذر فيها حفظ القرآن واللوح والدواية.. فطهرت قرية ام دبيب من الثعابين والهوام فسميت طابت …حتي قيل (( ام دبيب طابت)) وذلك حسب الروايات المتداولة ولعل اعلم علمائها في الفترة المعاصرة هو الشيخ الجيلي عبدالمحمود الحفيان ..ومثال اخر اسوقه للانتقال هو مسيد.الشيخ العارف/ جارالنبي جادين الحضري بالسديرة الشرقية شمال الجزيرة حيث درس هذا العالم الفريد في خلوة ومسيد الشيخ / قريب الله بودنوباوي واسس مسيد له في قريتة السديرة ومن خلال منزله المتواضع فيها والذي كان يدرس فيه طلاب الخلوة من داخل منزله ..ثم انتقل الي مسيد وخلوة اوسع في اطراف قرية السديرة ..والتزم تدريس علوم القران والسيرة النبوية وفقا لجدول للحصص والدروس والتي هي شبيهة بالمعاهد العلمية ..ولعل من ثمرة هذا الجهد تخرج عليه العديد.من المشائخ والعلماء ابرزهم العارف بالله المرحوم الشيخ عبدالحميد صباحي والشيخ العصامي والعالم المجتهد من اهل التصوف والجد والفلاح البروفسور / الفاتح الحبر مدير عام جامعة أمدرمان الاسلامية الحالي ..ولسيرة هذا العالم فصول وقصص تروي لحالها لما عليه من تقوي وزهد وعطاء وعلم ومعارف ..وللشيخ انتقال اساس حيث بدا البروفسور / الفاتح الحبر بتاسيس مجمع اسلامي ضخم في المنطقة وأيضا له تلاميذ واحباب ومشائخ وعلماء …ومما لفت انتباهي لشيوخ هذه الطريق هو المتصوف المغفور له الشيخ / حسن أحمد العوض من نواحي قرية ودراوة شرق الجزيرة والذي طاب له المقام للعمل في التجارة في مدينة أمدرمان…وعمل علي تأسيس مسجدا له جوار سكنه في الثورة الحارة التاسعة… والذي قوبل في البداية بالرفض في تأسيس المسجد في بداية الامر ولكنه قابل الرفض بعزيمة وصبر حيث ظن البعض انه سيكون مسجدا ضرار لمسجد الحارة التاسعة العريق …ولكنه سرعان ما شيده وبناه علي أحدث طراز واطلق عليه مسجد ( الخيف ) في مني وسرعان ما أصبح هذا المسجد الصغير قبلة لطلاب العلم والمعرفة من كثرة الدروس التي تلقي فيه ومن مختلف علماء وأهل الطريق ومن شتئ علماء الإسلام بمختلف مشاربهم ..ومما أود التركيز عليه… ومن بعد جرعة الفلسفة المفاهيمية هو ان يتحول علماء التصوف الي شعلة لبث نفحات علوم الحقيقة الربانية…ومثال قوي اخر هو ما أحدثه المغفور له الشيخ / عبدالرحيم البرعي في شمال كردفان من نشر علوم القرآن الكريم بتحفيظ القرآن الكريم وأحياء السنن الفضيلة لمحمد صلي الله عليه وسلم وأحياء زواج الايامي من النساء حيث بلغ عقده الجماعي للنساء الالف زيجة في احتفال واحد ويتكرر هذا الاحتفال الاجتماعي بصورة راتبة وسنوية ..ولله الفضل اولا في ذلك اولا واخيرا واستجابة مجتمع شمال كردفان للفكرة …
حدثوني عن أي جماعة اسلامية في السودان او حتي وزارة رعاية اجتماعية او غيرها في السودان او من دول الجوار قاطبة فعلت مثل ما فعله الشيخ عبدالرحيم في نشر القرآن وتحفيظه وتزويج الشباب والشابات في عصرنا هذا …وبالتالي لا مزايدة علي التاثير الايجابي الكبير لمشائخ الطرق الصوفية في السودان خصوصا وحتي امتد تأثيرها الي دول الجوار قاطبة . إن دور التصوف لا ينكره الا مكابر او جاهل بفضل هؤلاء ولم تكن هذه القفزات والمنجزات الا عن طريق القدوات التي اورثها هؤلاء العلماء والمشايخ في تلاميذهم وحواريهم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته .
والله ولي التوفيق تابعوني في كل ذلك والي لقاء قادم متجدد بإذن الله تعالي نتناول فيه الطريقة التيجانية.
د.بابكر عبدالله محمد علي