تحقيقات وحوارات

هيبة السلطان… محتوى كامل لخطبة الجمعة للشيخ احمد الجبراوي

بسم الله الرحمن الرحيم
*خطبة الجمعة*
بمسجد سللاب الريفي٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ
*هيبة السلطان*
أحمد الجبراوي
محتوى الخطبة:
قال تعالى: :قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ” ٢٦ القصص
إن من أعظم ما قررته الشريعة الإسلامية المحافظة على تعزيز قيمة الدين وتقوية سياسة الدولة وذلك لا يتم إلّا بركنين مهمّين هما القوّة والأمانة وهما قرينتان ، فالقوّة أمانة والأمانة قوّة
فالقوّة أمانة إذ أنّ من يتولّى أيّ منصب أو مسؤولية يجب أن يتمتع بالقدرة والكفاءة والنُزاهة والأخلاق الحميدة فهي قدرة الشخص على أداء واجباته على أكمل وجه دون استغلال لنفوذه أو ضعفه. فالأمانة قوة داخلية تنبع من الوازع الداخلي والضمير، وهي تعني أداء الحقوق والقيام بالواجبات سواء ما تعلق بالله أو بالخلق وأما القوة فه
والسلطان هو كل مسئولية وعمل يتعلق بالخلق فهو معنى واسع يشمل سلطان الرجل في ملكه والعالم في مجاله والوالد في بيته والمراة في بيتها والملك في سلطانه
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه))؛ متفق عليه وقال: “لا يُؤَمُّ الرَّجلُ في سلطانِهِ ولا يُجلَسُ على تَكرِمتِهِ في بيتِهِ إلَّا بإذنِهِ” مسلم .
إنّ من أكبر أسباب الهشاشة في المجتمع هو فقد الهيبة والقوة في كل مجالات الحياة إذ فقد البيت سيطرته على ذويه وانفلت الشارع
وضاعت هيبة السلطان وتضاءلت مملكة العلم وتأثيرها في الحياة واضعف الإيمان وغاب الوازع وسلطان المرء على نفسه وعلى من حوله وعليه فإنّ حاجتنا اليوم لإظهار الهيبة والقوّة مهمّة جدًا كما أنّ هناك تعمُّد لاسقاط هيبة السّلطان والقدوات إذ لا تزال سهام الاعداء والمتفلتين تنتاش أولئك حتّى تروج الهشاشة ويسهل انتشار الشهوة والشبهة فتتضاءل الهيبة وتنتشر الفاحشة والرذيلة وتستنزف العقول وعليه لابد:
١/ من قيام سلطان المرء على نفسه سوقا للطاعات وزجرا من المعاصي واخذها بزمامها للمعالي فلو ترك المرء نفسه لتفعل ما تريد لكانت هَلكَتَهقال تعالى: ” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩)” الشمس فالسلطان على النفس يحقق الايمان والتقوى والايجاببة والعطاء والنماء.
٢/ قيام الأب على بيته وأبنائه فهو مسئول عنهم وله سلطان عليهم فقدوته الصالحة وحرصه على المفروضات وقيامه بالابوة والرعاية يقتضي تقديره واحترامه وكذلك سلطان الام رعاية لتربية الأبناء والحفاظ على المال وغيرها وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)الإسراء
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) العنكبوت
٣/ والعالم والداعية لهم سلطانهم في الحياة فكلما شرف أهل العلم وتمت طاعتهم ازدادت الحياة وضعف هيبتهم يضعف الحياة وسلطان العلم واجب الحماية والتقدير قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ ٥٩ النساء واولي الأمر هم العلماء في قول أهل التفسير
٤/وكل صاحب مسئولية وإدارة معلما ومربيا ومهنيا او تاجرا او غيره لهم سلطان ومسئولية عليهم القيام بها لأنها أمانة وعهد فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
٥/ والسلطان في الدولة فهيبته من لوازم ولايته قوةً في العمل وأمانة في التنفيذ بسطا للهيئة وانفاذا للأوامر والنواهي وحسما لكل ما من شأنه أنْ يُضعف قوّة الدّولة أو يذهب شوكتها
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) سورة يوسف
وقد نظرت الشريعة إلى هذا الأمر على أنّه ضرورة تتحقق معها مصالح الدين والدنيا، لأن بقاء الدولة مُهابة الجانب يوفر للناس الاستقرار في معايشهم ويحافظون على ضرورات بقائهم، وبافتقاد الدولة لهيبتها فإنّ هذا مُؤذنٌ بفساد عريض وشر مستطير، من تعطُّل الحدود، ونشوء الفتن، وتشرذم الناس، واضطراب الأحوال، وهناك تَرخُص الدّماء، وتنهب الأموال، وتبرز العصبيات، وتعلو النعرات، ويتجرأ العدو، ويُبدل الناس بعد الأمن خوفاً، وفي استشهاد التاريخ واستنطاق الواقع عظة وعبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد!! ولذلك تضافرت وتكاثرت واتحدت النصوص في الكتاب والسنة تصريحاً وتلويحاً على وجوب المحافظة على هذه المصلحة وتقويتها وإبقائها، وقطع كل الذرائع التي تفضي إلى الإخلال بها!! ولعل من أقرب الأمثلة التي تؤكد قيمة الدولة وضرورة بقائها مهابة محترمة عند جمهور الناس ما يتعلق بقضية الحدود، فإن إقامتها مناط بالدولة، من قتل القاتل، وقطع يد اللص الخاتل، ورجم الزاني المحصن، وجلد الداعر، وغيرها من الحدود والتعزيرات المعلومة؛ فليس لآحاد الناس وأفرادهم توليها؛ لأن إقامتها يحتاج إلى قوة، وهذه موجودة في جانب ولاة الأمور الذين جعلهم الله فيصلاً بين الحلال والحرام، ولو تُرك الأمر لكل أحد لأصبحت الأرض رجراجة، والبلاد متكفئة، والدماء رخيصة، ولتسلط القوي على الضعيف، ولخربت الأوطان، وحل الدمار. ولأجل ما سبق فقد نصّ الفقهاء أن على ولي الأمر أن يولي القضاء والمظالم أصحاب الهيبة والحشمة والقوة، لأجل مصلحة مجموع الأمة، قال الماوردي في متولي ولاية المظالم: «لا بد أن يكون عظيم الهيبة» ، وقال رحمه الله في الهيبة: «إنها قاعدة الملك، وأساس السلطنة، وذلك لا يكون إلا لمن خيف غضبه، وخشيت سطوته» فالدعوة إلى جعل الدولة مهابة الجانب محشومة المقدار في نفوس الرعية أمر معروف في جميع الملل ومتعارف عليه في الأواخر والأُول، قال ابن مسكويه في تجارب الأمم: «ومن حسن سياسة الملوك أن يجعلوا خاصّتهم كلّ مهذّب الأفعال محمود الخصال موصوفاً بالخير والعقل معروفاً بالصلاح والعدل، فإنّ الملك لا تخالطه العامّة ولا أكثر الجند، وإنّما يرون خواصّه، فإن كانت طرائقهم سديدة وأفعالهم رشيدة عظمت هيبة الملك في نفس من يبعد عنه لاستقامة طريقة من يقرب منه» وإذا كان السلطان ضعيفاً، أو كان غير ذي سياسة وهيبة، فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد، وأن الخلل يعود على الدين والدنيا، ولم يكن لذلك السلطان في أعين الناس خطر، ولا يسمعون كلامه، ولا يطيعون أمره، ويكون الخلق عليه ساخطين ولذلك اوجبت الشريعة طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله، وتعظيمهم في النفوس، وجمع القلوب عليهم، والحذر من معصيتهم والاختلاف عليهم، فإن في الاختلاف عليهم وإضعاف هيبتهم وإذهاب حشمتهم من المفاسد ما لا يدخل تحت الحساب ولا تضبطه أقلام الكتاب وقد أجمع أهل السنة والجماعة على وجوب طاعة الأئمة في غير معصية الله، وأدخلوا هذه المسألة في مصنفات الاعتقاد، كما فعل الإمام أحمد، والآجري، والصابوني، والطحاوي، وغيرهم من أئمة الإسلام، مما يدل على أهميتها وخطورة مخالفتها، وبطاعة ولاة الأمور واحترامهم تتحقق هيبة الدولة، ويأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
قال الاماموالقرافي: (ضبط المصالح العامة واجب، ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة). فالافتئات على السلطان ينتج عنه سقوط الهيبة، وزوال الهيبة، وتجرؤ الدهماء، وتحفز الغوغاء. ومن الوسائل الشرعية المقررة أيضاً في التأكيد على ضرورة المحافظة على هيبة الدولة وقوتها اجتناب سب الولاة ونوابهم وانتقادهم عند العامة والخاصة، أو تعييرهم وانتقاصهم، أو المجاهرة بنصيحتهم والإنكار عليهم، أو التشهير بأخطائهم، فإن هذا مما يضعف طاعتهم، ويوهن قيمتهم، ويجعل الناس ينفضون من حولهم، قال ابن مسكويه: «وإذا كان خواصّ الملك ممن يقدح فيهم وتذكر مساويهم، قلّت الهيبة في النفوس» .
ولقد كانت لعمر رضي الله عنه من الهيبة ما هو مشهور ومذكور!! حتى إن طالب الحاجة يأتيه ليكلمه في حاجته، فما يقدر على ذلك من هيبته، فيرجع ولم يقض حاجته، فأشار الصحابة على عبدالرحمن بن عوف أن يكلمه في ذلك. ولأجل هذا بلغت دولته ما بلغت شأواً كبيراً. وضربت الدولة الإسلامية في عهده الأقاصي من الأرض تنشر النور والخير، ولقد كان رضي الله عنه يشجع كل من يعين على بقاء هيبة الدولة قوية، وحشمة ولي الأمر عالية في نفوس الناس، ولذلك لما قدم الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم؛ فلما دنا منه قال له عمر: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما يبلغك من ذاك. قال: ولِمَ تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به؛ فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شيء، إلا تركتني في مثل رواجب الضرس؛ لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً، إنها لخدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه. فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه .
ومع الهيبة لابد من العدل والرحمة والسماحة كما كان اولئك الخلفاء العظام.
*وبعد:*
فإن بسط السلطان بمفهومه هذا يحقق التوازن وتكامل الأدوار في الارتقاء بالنفس وصلاح البيت ونقاء الشارع وهيبة العالم والمعلم والسلطان ورقي المجتمعات ونهصتها وإقامة العدل والسماحة والرحمة في المجتمع .
والله الموفق

والحمدلله رب العالمين
أحمد الجبراوي
بورتسودان
٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى