رأي

احمد الجبراوي يكتب: الْهِجْرَةُ النّبَوِيــِّـةُ : الانْعِتَاقُ مِن ضِيقِ الإنْتِمَاءِ إلَى سَعَةِ الوَلَاءِ والعَطَاءِ

بسم الله الرحمن الرحيم
الْهِجْرَةُ النّبَوِيــِّـةُ :
الانْعِتَاقُ مِن ضِيقِ الإنْتِمَاءِ إلَى سَعَةِ الوَلَاءِ والعَطَاءِ
أْحْمَدُ الجَبَرَاوِيّ
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد
فإنّ الهجرة النّبويّة تمثّل تحوّلا مهمّا في تاريخ الاسلام وهي تشتمل على مجموعة ممّا يُعتَبَرُ به ممّا يمسّ واقعَنا ومن ذلك أنّ الهجرة النّبويّة تمثّل انعتاقا كبيرا من ضيق الانتماء إلى تجسيد بُعْدٍ أوسع من الولاء لله تعالي والذي يؤدي بدوره الى اتّساع وشمول العطاء الانساني اذ كلّما اتّسعت دوائر المرء ومحيطاته كان ما يخرج منه بذات تلك السّعة وأما الضيق فإنّه يؤدي الى مثله ونلاحظ مؤشرات ذلك من خلال التّالي :
* معني الهجرة :
إنّ الهجرة تُجسِّد المضمون أعلاه وتحتشد فيه تلك المعاني باعتبارها حركة من ضيق النّفس وأسْر القبليّة والوطنيّة واحتِباس المعاصى والآثام والخروج من بلاد الكفر الى بلاد الأمان والإيمان فالهجرة تعنى الخروج الى ذلك الفضاء الممتد ولذلك كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً كبيراً بعد ما لاقاه من عنت أهل مكة وشدّة عداوتهم حتّى إذا ما بلغ اليأس منتهاه كان الإذن بالخروج ليكون بابا لسّعة الانتصار بتحقيق قيمة الولاء قال تعالـــى :
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ) يوسفو١١٠ فمهما كان في الهجرة من محنة الاغتراب إلا أنه مؤدٍ لا محالة إلى اقتراب المنح
* العقيدة مقدّمة على الأوطان :
وهي الحقيقة الماضية فمهما بلغت محبّة الأوطان فى النّفوس إلا أنّ العقيدة تأخذ الأولويّة ولذلك ترك الرّسول عليه السلام مكة وهي أحب بلاد الله الى الله وأحبّها الى رسوله فقال (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) التّرمذي فالانتساب الحقيقي للدّين الإسلامي فكراً ومشاعر ووجداناً، واعتزازُ الفردِ بالانتماء إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثبات على منهجه، فهو ولاء يعود بالنّفع عطاء وتفاعلا حتى مع احتياجات القبيلة والوطن والأسرة ، ويظهر ذلك من خلال بروز محبة الفرد لوطنه والاعتزاز بالانضمام إليه والتضحية من أجله والانتماء الحقيقي يشتمل على قيم عالية سامية، تتمثل في محبة الفرد لمجتمعه، وحرصه عليه وتفاعله مع جميع أفراده وخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً إسلامياً بمعنى الكلمة وكل ذلك من ثمرات تلك السعة وأما اذا ضاق الولاء للأسرة والقبيلة والقومية فانه لا يتسع ليكون محبة للدين والعقيدة فتكون القبلية والقومية محادة للدين ومحاربة له أو لا تستطيع الالتزام بتعاليمه وهديه وسمته والشّواهد على ذلك كثيرة .
* عمق الرابط الاسلامية:
فإنّها رابطة عميقة الجذور تثمر خيرا وترابطا وتنبض بالانسانية فها هو القادم الكريم ومعه أصحابه في مستوى رفيع من المكانة والترحاب نزلا وضيافة بل وتنازلا لهم عن الأرض والمتاع والزرع والضرع ” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ” الحشر ٩
فمهما تكون الروابط فإنها تصْغُر أمام رابطة الاسلام و التى تتسم بقيم الإحسان وخلق الرحمة ورابطة الاخاء الحق والايثار والإكرام قال تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات ١٠ وتتسع دوائر الاخاء الايمانى احتمالا للأذى ونجدةً للملهوف وإغاثةً للمحتاج ورعايةً لليتامى والأرامل وذوى الاحتياجات الخاصة اخاء يعطى للإنسانية جمعاء اسمى انواع العطاء بلا منٍّ ولا أذى وبذا عُرف الإسلام وأهله .
* فى ركب السَّنن الكونية:
لم يرد الله أن تكون الهجرة اعجازا كما فى الإسراء والمعراج وإنّما جعلها عملا بشريّا خالصا تكلؤه عناية الله وتحفظه معيته فاتخذ النبي الكريم كلّ ما أتيح له من السنن الكونية تنظيما وتخطيطا ومراقبة وتنفيذا وامدادا وحماية حتى يصل إلى مبتغاه فى انجاحها وهو مما نحتاحه فى حياتنا تنزيلا لمعانى الهجرة تلك بعمق تحقيق الانتماء للدين وبذل الوسع فى الذود عنه وتحقيق معانيه فى حياتنا ابتعادا عن عبية الجاهلية وتفاخرها بالأنساب والقبلية والقوميات
“أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات ١٣. ونجعل من تحقيقنا والتزامها باليمن الكونية ما يعزز تلك المعانى وليس تآمرا على معانيها ولا حربا عليها التزاما باليمن الكونية من العدالة والشفافية ومعايير الصدق والامانة والأخلاص وغيرها مما تستقيم به أوضاعنا.
*الأسرة فى معية الولاء:
إن رابطة الأسرة تغدو قوة إنْ كانت فى صالح العقيدة الإسلامية وترسيخ قيمها في الحياة وتمسى ضعيفة لا حياة فيها إذا كانت لصالح الحياة ومتاعها ولأجل ذلك برز البيت كحاضن لنجاح الهجرة وتراتيبها المتعددة ليظهر لنا فى حياتنا كترياق مضاد لكل السهام التى تنتاش الاخلاق والقيم وهكذا يبرز بيت الصديق رضى الله عنه كنموذج حىّ لنجاح الهجرة فالبيت كله فى خدمة صاحبة الرسالة … الدار ومالكه وأبناؤه وبناته وماله وراعيه وغنمه…الخ
وحاجتنا اليوم إلى بناء البيت ليكون حاضنا وداعما لترسيخ قيم الانتساب للدين بعيدا عن الجهوية والقبلية والقومية من الأهمية بمكان كما برز معززة لها فى انجاح الهجرة بتفاصيلها .
*تضحيات جسام لأهداف عظام:
إنّ بذل النفس والوقت والمال والجهد والتفكير والتضحية بالوطن والممتلكات ومراتع الصبا وموئل الأهل كلها وغيرها تضحيات جسام وهى تبذل رخيصة من أجل الغايات العظمى والدرس المهم أن ترسيخ قيم الولاء لله ولديننا ولتجذيرها فى الحياة يحتاج إلى جهد مبذول تنال به الثمرات العظام فالأمة تحتاج الى حزمة من الايجابية والفعل ااصادق والولاء الراشد والعطاء المتصل خاصة فى إعلان ولائها لله ولرسوله ولدينهبدلا من الجهويات المقيتة والعصبيات البغيضة .
*التوكل والثقة :
كان عامل التوكل بعد بذل الاسباب مؤدٍ إلى كامل الثقةوفيماوعند الله لإنجاح الهجرة بداياتها تلك( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة ٤٠
) فمن لوازم الولاء لله الثقة به فلا اعتماد على جاه ولا قبيلة ولا منصب وإنّما هى رعاية الله تعالى وحده لا شريك له وهى القيمة العظيمة من خلال درس الهجرة أن كل العلائق والوسائط تتساقط وتبقى معية الله الكبير المتعال.
* اذا اتسع الولاء زاد العطاء :
بمقدار ما يزيد ولاء العبد لدينه يكون عطاؤه اللازم والمتعدى لان الولاء ترجمان للإيمان فبزيادته تربو الحسنات وتثمر الطاعات وتكثر الخيرات وهكذا كانت حياة الأمة المؤمنة وقد وجدت البشرية خيرها قيما وأخلاقا وعلما وادبا ورقيا وعدلا وسماحة ويوم أن بهت ذلك البريق وضعف النور انتكست الامة وأمست عالة على العالم تستجدى خيراته وتستطعم زرعه وتيتقى من تقاناته أن تحديد درس الهجرة فينا بإحياء معانى الولاء الصادق والاعتزاز بديننا الحق وترك عصبية الجنس وتفاخر الانساب لنعود كما كنا روادا للنهضة وحداة لركب الأمم.
*وللمرأة أدوار عظيمة :
لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير كأمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة و أختها أسماء ذات النطاقين، التي ساهمت في التموين في الغار بالماء والغذاء، و تحملت الأذى قالت:” لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟، قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا ” ابن هشام وابن كثير . وبالتالى فالمرأة دورها عظيم فى بناء فيكم الدين والوباء لله وإسناد العمل الدعوى والتربوي وغيره وهو دور يتجدد الاحتياج إليه اليوم ونحن نستعيد تلك الذكرى العطرة
*حزمة الأمل:
مهما ادْلَهمّ الخطبُ وزادت التحديات إلّا أنّ الأملَ يظل مرفرفا أمام العبد وعليه فإنه لا يمنعن مانع عبدا من أن يصل إلى مراده لأنه متعلق بربه يحيط به امله وقد جاء فى مراسيل الحسن رحمه الله قوله لسراقة بن مالك رضى الله عنه:(كيف بك اذا لبست سوارى كسرى ) وهكذا يحدونا أمل أن نجدد ولاءنا لديننا وعقيدتنا وأن ننبذ الجهويات والقبلية والعنصرية والاثنية فأوطاننا تحتاج إلى ترسيخ مثل هذه القيم تحديدا لدروس الهجرة وعبرها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد و آله وصحبه وسلم.

أحمد حامد الجبراوى
الخرطوم
٢٩ ذوالحجة ١٤٤١هـ

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى