ياسر الفادني يكتب في من أعلى المنصة: العشق الذي لا يموت

من أعلي المنصة
ياسر الفادني
العشق الذي لا يموت
المدائح النبوية تُعد من أرقى فنون الشعر الصوفي، لعل أعذبها مدحة (آلاف الصلاة علي اب قدر جليل) ، هي مدحة تجمع بين جمال الأسلوب وقوة التأثير الروحي. ويُعد الشيخ حياتي من أبرز المادحين الذين صاغوا مدائحه بأسلوب يجمع بين البلاغة الرفيعة والروحانية العميقة. هذه المدحة تحمل بين طياتها صورًا جمالية مبهرة، وتفيض بمعانٍ سامية تلامس القلوب وتوقظ في النفوس مشاعر الحب الصادق للمصطفى ﷺ.
في هذه المدحة، تتجلى الصور البلاغية التي تعكس عظمة النبي محمد ﷺ ومعجزاته، مستخدمةً التشبيه والاستعارة والكناية لإبراز مكانته السامية. ففي قوله “ذو الخلق العظيم قايد الخير زمام”، نجد تشبيهًا بليغًا يصور النبي ﷺ بالقائد الذي يمسك بزمام الخير، في إشارة إلى قيادته للأمة نحو الهداية والنور. كما نجد استعارة رائعة في قوله “والعنكب حما باض فوق الحمام”، حيث شبه العنكبوت بجندي يحرس النبي ﷺ في الغار، مما يضفي بعدًا دراميًا وعاطفيًا على القصة. أما في قوله “باع المرسلين من طول شبر قاصف”، فهي كناية عن تفوق النبي ﷺ على جميع الرسل في المكانة والمنزلة، مما يعكس مقامه الفريد عند الله.
أسلوب الشيخ حياتي في المديح يتميز بالبساطة والعمق، مما يجعل كلماته قريبة من وجدان العامة والخاصة. الإيقاع العذب في المدحة يجعلها سهلة الحفظ والترديد، خاصة وأنها مكتوبة بلغة سلسة تتناسب مع التلحين والغناء. كما يعتمد على التكرار والتوكيد، مثل قوله “الأف الصلاة”، مما يرسخ المعاني في أذهان المستمعين ويمنح المدحة طابعًا روحانيًا مميزًا. المدحة أيضًا تتبع تدرجًا رائعًا في المعاني، حيث تبدأ بالثناء على النبي ﷺ، ثم تنتقل إلى ذكر معجزاته، ثم الحديث عن الصحابة، مما يمنحها بناءً متماسكًا ومترابطًا.
اللحن الذي تُؤدَّى عليه هذه المدحة يتميز بانسيابيته وتوازنه، حيث يتم تأدية الأبيات بإيقاع متزن يسمح للمادح بالتأمل العميق في معانيها. التكرار النغمي المستخدم يساهم في تعزيز الأثر الروحي وزيادة التفاعل الجماهيري مع المدحة، كما أن الانتقال بين المقامات الموسيقية يضفي إحساسًا بالتجلي والانجذاب الروحي
المدحة غنية بالصور البلاغية التي تضفي عليها بعدًا فنيًا بديعًا. ففيها جناس موسيقي جميل كما في قوله “ذو الوصف الجميل الما بحيطبو واصف”، حيث نجد تناسقًا صوتيًا بين “الجميل” و”الوصْف”. كما تحتوي على السجع الذي يمنح الأبيات وقعًا موسيقيًا محببًا، كما في قوله “امنحنا الرضي من قبل الرحيل، العظم الوهن شد في الطاعة حيل”. ويظهر التلميح الفني حين يشير إلى معجزات النبي ﷺ مثل عودة الشمس وانشقاق القمر دون التصريح المباشر، مما يضفي على المدحة لمسة راقية من الإيحاء والرمزية.
هذه المدحة تحمل رسائل إيمانية عميقة تجعلها أكثر من مجرد قصيدة، فهي تعمّق حب النبي ﷺ في القلوب من خلال ذكر أوصافه الكريمة ومعجزاته العظيمة، كما تدعو إلى الاقتداء بأخلاقه والتأسي به في السلوك والمعاملات. إلى جانب ذلك، فهي نوع من التوسل والتضرع إلى الله بطلب الصلاة والبركة على النبي ﷺ، وهي وسيلة روحية تسعى للقبول والاستجابة. المدحة تعزز أيضًا الروح الجماعية بين المسلمين، حيث تُؤدَّى في حلقات الذكر والمناسبات الدينية، ما يعزز الترابط الروحي والاجتماعي بينهم.
إني من منصتي اسمع…. حيث أستمتع بحب…. لمدحة الشيخ حياتي نموذج متكامل للمديح النبوي الذي يجمع بين الجمال الفني والتأثير الروحي. من خلال صوره البلاغية العذبة، وأسلوبه السلس، ولحنه العاطفي، نجح في تقديم مدحة خالدة تحفر معاني المحبة والتوقير للنبي عليه صلوات الله وسلامه في قلوب سامعيها، لتظل شهادةً على العشق الذي لا يموت.