د. صلاح عمر حاج احمودي يكتب: موت الكبار… يحي الدومة

موت الكبار
يحي الدومة
بقلم البروفيسور صلاح عمر حاج أحمودي
بغداد 13/11/2025
قليل من الناس من يثبت عند الصدمة الأولي وكنت أحسب نفسي من ذاك القليل إلي أن نعي لي الناعي رحيل الأخ يحي الدومة فإنعقد لساني وغابت الكلمات وهطلت عيني بالدمع الهتون ولم أتمالك نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون. الموت حق نؤمن بذلك ونصدق ولكن موت لموت يفرق والعظماء لا يموتون إلا بعد أن يستنفذو كل العطاء ويذهبون من الدنيا الفانية صعودا إلي رضا الله ورحمته ويتركون آثارهم الخالدة المؤثرة تتحدث عنهم وتحكي قصص النجاح والكفاح والإجتهاد وإفراغ الجهد فمنهم من قضي نحبة ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا يسعون بين الناس كنسمات الصباح يبثون الأمل والحياة ويمسحون دمعة اليتامي والمساكين والآرامل والآيتام والضالين والتآهين في دروب الحياء ونحسب أن أخانا وصديقنا يحي الدومة هو ذلك كله عطاءا بغير من وإخلاص دون لجاجة وسعيا بن الناس بالخير
فالحمد لله رب العالمين الذي صور الخليقة و أظهرها، وطهر القلوب و نورها، فسبحـان قاهر عباده بالموت وهو الحي الذي لا يموت، أعلم أن فقيدنا يعتقد جازما أن جميع ما قدره الله وقضاه لا دافع له غيره ولا رادع له سواه.
ونحن، بدورنا نقابله بجميل الصبر وحسن الرضى وصدق الاتكال على الله سبحانه وتعالى.
اسمحوا لي؛ أولا أن اتقدم أصالـة عن نفسي ونيابـة عنكم جميعا بالتعازي الى عموم اسرة الفقيد، الي أولادة ثم زوجته وكذلك الى امتداداته العائلية في كل مكان.
يصعب عليَ اختزالُ المرحوم يحي الدومة في بضع كلمات وجمل من النثـر، أو الشعر كما يصعب على أي منكم اكتشاف إرث الفقيد وكفاحه من خلال علاقاته الواسعة الممتدة خارج وداخل السودان أو من خلال كفاحة الطويل في سبيل الدعوة في أفريقيا التي تعرفة ويعرفها ويذكر أهلها له فيها فضل كبير وجهد مقدر، ..، كما يصعب عليَ اختزالُ المرحوم يحي الدومة من خلال سنده وبذل ماله لوطنه وعلاقاته الواسعة في وقت الظلم ومقاطعة السودان وحظر التعامل بالدولار أو شراء الأجهزة والمعدات فما كان لها إلأ يحي الدومة الذي تفتقت عبقريتة وتفجر حبه لوطنه بإجاد الحلول الناجعة وتقديم حر مالة فداء للوفاء بحق الوطن. لكن يمكنني ان أؤكد جازما أن فكر ومواقف وإجتهدات يحي الدومة تكونت خلال عوامل عدة نذكر منها بعض شئ:
الأول يكمن في إعتناقه لفكر الحركة الإسلامية وجعل من نفسة خادما مطيعاً وباذلاً عطًاءا لا يدخر من ماله شيئا ولا وقته وصًالا لحبل الأخوة سندأً للكل إجتهد في تطوير نفسه وتحلي بالعلم والمعرفة ولغة العصر فأتقن الإنجليزية وبذ فيها أصحابها فكانت له معيناً طيباً للدعوة في سبيل الله في أدغال أفريقيا حتي عرف بينهم بالشيخ وأصبح لا يعرف إلأ بهذه الكنية وإن ذكرت إسمة دون ذكر اللقب فقد تجد من يكرر الكلام رادا إليك هل تقصد الشيخ يحي الدومة هكذا هو في أنقولا وتنزانيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا والكنقو وأثيوبيا وأرتيريا والصومال في كل بلد له محبين وطلاب علم ومهتدين وأسر فقيره يرعاها ويعمل بينهم بهمة النحلة لا يكل ولا يمل وما حكاية عائشة الأنقولية إلا نموذج من النماذج النيرات في مسيرة المرحوم. حيث يقول الراوي أن عائشة نشأت في بيت أبيها مفتي أنقولا ورمز من رمز المسلمين الذي يذكر لشيخ يحي كثيراً من الفضل في دعم الخلاوي مراكز القرءان وكفالة المهتدين وفقراء المسلمين ثم أن الرجل توفي إلي رحمة مولاه وهنا إجتمع القوم من المجتمع الأنقولي ومحبي الشيخ وعقدو العزم أن تكون بنته عائشة خليفته في الدعوة والفتيا ورعاية مراكز القرءان والي هنا تسير الأمور بصورة طبيعية ولكن كانت تستعصي عليها إجابة بعض الأسئلة من المستفتين في أمور دينهم فما كان إلا شدت الرحال إلي السودان ذهابا من قطر إلي قطر ومن بلد إلي بلد وأتخذت جميع وسائل المواصلات حتي بلغ بها الأمر أن تقطع بعض المسافات راجلة إلي أن وصلت جامعة أفريقيا العالمية بحالة رثة وحال بئيس كئيب وظنها كثيرا من الناس متسولة ومع لغتها الركيكة وشكلها الغريب كان كل من تدني بالقرب منه لتسأله ينفر منها ويقول لها الله كريم دونما يعي مشكلتها حتي وصلت إلي بوابة الحرس الجامعي فسألتهم أين شيخ يحي الدومة فقالو لها هو لا يأتي هنا وليس له إرتباط بالجامعة فظلت تلح أنها لا بد من أن تجد شيخ يحي وهي قطعت كل هذه الفيافي لتصل إليه لأن لديها مشكلة ولا تعرف شخص غيره – لله درك يا يحي – وهو في تلك اللحظة في دولة موزمبيق. المهم تصادف دخول دكتور صديق للمرحوم يحي ويجد الحرس يحاول أن يتخلص من المرأءة التي جلست لهم في الأرض وقالت لن تبارح إن لم يوصلوها للشيخ وحينما علم بمشكلتها تواصل مع يحي وحكي له الحاصل فقال له يحي هذه بنت مفتي الديار الأنقولية وهو سيحجز في أقرب طيران ويأتي إكراما لها ولوالدها فأكرمو نزلها ورحبو بها آيما ترحيب ولك الخيار إما تذهب بها إلي بيتي وأولادي أو تنزلها عندك مكرمة في دارك وبين أولادك. فكان لها ما أراد من إكرام النزل والتقدير والإحترام ومكثت مع يحي الدوم وتحت كفالته وقبلت في مركز أفريقيا لتعلم اللغة العربية وإتقانها ثم الجامعة إلي أن تخرجت في الدراسات الإسلامية وكانت طالبة مجدة ومجتهدة وبعد خمس سنوات تودعها أسرة يحي إلي بلدها معززة مكرمة وقد تحلت بالعلم والمعرفة. لله درك يا يحي فقد بذلت وما بخلت وأخلصت النية فكان التوفيق في كل خطوة.
أما في شأن الوطن فكان ليحي عطاءا غير منقوص بتوريد أفضل الأجهزة المحرمة علي السودان بتمويل منه أرجعت له القوات المسلحة جزء من ماله وأحتسب جزء منه فكانت عونا للجيش وهو يصارع حرب الجنوب التي طال أمدها وكانت خير معين. يحي الدومة يتميز بذكاء إجتماعي فريد فيستحيل تلتقيه ولا تستمر علاقتك معه كأفضل صديق يحول كل تعارف إلي علاقة عميقة وصلات مستمرة. يحي الدومة شعلة من النشاط والطموح والتخطيط مستعجل لإنجاز أكبر وأكثر في حياته كأنه علي موعد مع الموت ويريد أن يذهب وقد أنجز كل ما خطط له.
إننا إذ نعزي أنفسنا فيه فإننا نعزي أسرتة الصغيرة زوجه وأبناءه فقد ترك والدكم إرثا كبيرا ومسيرة فخر ونعزي إخوته عثمان الذي سار علي نهجة أغتفيا أثره وأخية الأصغر المحبوب لدية موسي الدومة أسرة طيبة من أصل طيب تربت علي حب الخير وورثته من جزور بعيدة صاغر عن كابر. كما نعز فية محبية من جنوب ووسط أفريقيا في رجل عرف أدغالها وعايش ناسها في مجاهيلها وكافح مع مناضليها ودعم أسرها وأطفالها وهداهم للدين الإسلامي الحنيف إستثمر علاقاته بالخليج والسودان ووجها كلها لدعم الإسلام والمسلمين في مجاهل أفريقيا رافق الشهيد مبارك قسم الله والمرحوم حب الدين والأستاذ رمضان بريمة وكثير من الذين عملو في مجال الدعوة في أفريقيا.
إنني إذ أسطر هذه الكلمات الفقيرات القاصرات ينتابني شعور مزدوج ما بين العرفان والتقدير لاسم المرحوم واسهاماته العظيمة، وما بين الحزن والأسى على رحيله كأي فارس نبيل يغادر قومه، بعدما أفنى حياته بيـن التألق والابداع والتميز، فما أقسى أن أتحدث عن موت أخ بمثابة الشقيق، وعن فقدان صديق كان بمثابة السند، وعن داعية عاش لدعوته وأخلص لها وعن والد محب لأسرته وخلف رجال وبنات صالحات نهلو من العلم فبلغو فية المدي. ثم رحل عنا فترك فراغا كبيرا!! وما أصعب أن أستعرض مآثر وخصال شخص عرفته على تواضعه و وداعته ناكرا للذات محب للخير والآخرين.
” يجب أن لا نبكي على أصدقائنا؛ إنها رحمة أن نفقدهم بالموت و لا نفقدهم وهم أحياء”، لم يكن مُونتسَكْيُو ليقول تلك الحكمة الخالدة عبثا وما كنا لنعلقها لولا ارتباط صدقها بشخص كنا نعلم طموحاته وكنت أدرك تطلعاته، وأترقب عن يقين قدومها، وأعرف أنها مهما تأخرت فستأتي، ومهما تعرقلت فستذلل من امامها العقبات، وستزول من طريقها الصعاب.
ليس في الجسد منتفعٌ كما كان يقول الإمام البوصيري، إنه قبـر الروح حسب إفلاطون، أما الآن وقـد غادرت روح اخي يحي إلي رحمه الله – جسده الفاني- ، بعد أن مل هفوات أهل الدنيا، وبعدما أفنى سنوات عمره قربانا لأفريقيا ووطنه وعائلته وحق لأصحابـه تذكار تسامحه وكياسته واخلاصـه، أما أبناؤه و ذوُوه فعليهم الآن حفظ ذاكرته الندية الزكية والتحلي بخلقه الـرفيع وشهامته وسمـو نفسه الأبية.
ولا نملك إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون وأقول له إن أثركم الطيب باق.. إن أثركم الطيب باق، وأقول له لقد مضيت ونحن لا شك على نفس خطاك وعزمك ماضون.
غفر الله للحبيب يحي الدومة ورحمه.







