رأي

أحمد الجبراوي يكتب: الهِجرةُ النّبويّةُ وَاسْتِشرَافُ مَعَالمِ النّصْرِ

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
*الهِجرةُ النّبويّةُ* *وَاسْتِشرَافُ مَعَالمِ النّصْرِ*
أحمد حامد الجبراوي
المحامي
ستظلّ الهجرة النّبويّة من مكّة إلى المدينة منبعاً تتجدّد دُررَه ولآلئَه مع تجدُّد الأيّام والدّهور ومن أعظم ما يتّصل بتلك الهجرة المباركة أنّها كانت مفتاحاً مُهمّاً لاستشراف معالم وبيارق النّصر وذلك من خلال جملة من المعطيات ولا غرو ولا عجب أنْ سمّاها الله نصراً قال تعالى :-
﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ٤٠ التّوْبَةُ
فلا أعظم من نصر الله لعبده متى ما حقّق نصر الله هجرةً إليه بترك الذنوب والمعاصي واتخاذاً لكافة أسباب النّصر تخطيطاً وتمويلاً أخذاً بالأسباب وتوكّلاً على الله وغيرها ونحن اليوم أكثر حاجة لمعرفة وسائل ومعينات النصر من خلال عبر هذه السيرة العطرة والتي نتلمّح معالمها من خلال المعطيات التالية:-
١ */العقيدة أولى بالحماية:-*
عقيدة التّوحيد أساس الملّة ورأس الأمر وهي عمود الزاوية في النّهضة والبناء والنّصر وحمايتها والدفاع عنها يأخذ ذات الأولوية ولذلك كانت سببا رئيسا للهجرة النّبويّة حتى تتحقق تلك النتيجة الغالية وهي انتصار الملّة ونشر الاسلام وارتفاع راياته في أرض الله تعالى فلا نصر إلّا بترسيخ قيم التوحيد ربوبية واسماء وصفات وألوهية .
*٢/تمتين اللُّحمة الاجتماعيّة:*
إنّ بناء الإخاء الإيماني يعزِّز من تماسك المجتمع ويقوِّي فُرَصَه في تحقيق الغلبة والنصر ولذلك ثَبَّتَ النّبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الأمر اخاءً بين المهاجرين  والأنصار من بعد أن عمَّقَ الأخوَّة بين مكونات المدينة النبوية الاجتماعية فاتصلت الأمة خلفاً وسلفاً برابطة الإخاء والمودّة فمدح الله السابقين واللّاحقين بذلك في قوله:-
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ  وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ الحشر
ثم ربط بين مجتمع المدينة كافة بوثيقة المدينة وعليه فالهجرة تُعزّز فينا هذا المعنى وتعيد الدرس بأهمية بناء النسيج المجتمعي نبذاً للعنصرية والجهوية وسموّاً على الإثنيات الدّاعية للقطيعة والمُؤديّة إلى الضعف والهزيمة فبوابة النصر هي الاعتصام والوحدة وتماسك المجتمع وحاجتنا اليوم تزداد لهذه القيمة المهمة ولا تزال بلادنا تعاني من آثار الحرب والدمار والتهجير القسري مما يعني المزيد من بناء الداخل وتقوية نسيجنا المجتمعي .
٣ */الأخذ بالأسباب* :
أراد الله للهجرة أن تكون عملا بشريا لأنها شعيرة باقية متجدّدة ولذلك أخذ النّبي عليه الصّلاة والسّلام بكلّ أسباب النّجاح من تخطيط وتمويل وترتيب وحماية واختيار للرّفيق والاستعانة بالخبرات واتخاذ الحيطة والسرية والكتمان وغيرها من أسباب لنجاح الهجرة وعليه فما من نجاح ونصر تريده الأمة إلّا وهو يحتاج لذلك الجهد باتخاذ كافة السنن الكونية و التراتيب التي تؤدي لبلوغ الغايات والأهداف وتحقيق المقاصد.
*٤/تعميق الثّقة وتجريد التّوكل:*
إنّ بذل الأسباب الماديّة يحتاج إلى حماية بتعميق الثِّقة بالله وتحقيق التّوكّل عليه وحسن الظّنّ به تعالى :(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ … ) فبذل الأسباب مطلوب وإنزال الحاجات بربّ الأرباب أكثر طلبا وعليه فالدرس المهم لنا اليوم هو المزيد من بذل الاسباب مع تعميق الصّلة بالله وإحسان الظنّ به تعالى.
*٥/ مساحات أوسع للعطاء:*
كلّ ما ضاعف وزاد العبد ولاءه لدينه اتسع عطاؤه وزاد ولذلك لما كانت الهجرة خروجا من دار الأهل إلى بلاد الله الواسعة وهجرا لمراتع الصبا وخروجا من ساحة التضييق والصدّ والأذى فإنه يتحقق بذلك المزيد من الولاء لله تعالى مما يُثمِر المزيد من العطاء والبذل للدين فيزداد الإيمان وبزيادته تربو الحسنات وتثمر الطاعات وتكثر الخيرات وهكذا كانت حياة الأمة المؤمنة وقد وجدت البشرية خيرها قيما وأخلاقا وعلما وادبا ورقيّاً وعدلاً وسماحةً ويوم أن انطفأ ذلك البريق وتضاءل ذلك النور والضياء انتكست الأمة وأمست عالة على العالم تستجدى خيراته وتستطعم زرعه وتستقى من تقاناته فتجديد درس الهجرة فينا بإحياء معانى الولاء الصادق والاعتزاز بديننا الحق وترك عصبية الجنس وتفاخر الانساب لنعود كما كنا روّادا للنهضة وحداة لركب الأمم باتساع العطاء بمقدار الخروج من ذلك الضيق وتلك المعاناة .
*٦/تحقيق الايجابية:*
الهجرة طاعة وفعل وتفاعل وحركة وكذا كل عمل المسلم  ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الحجّ ٧٧ وبهذا تتحقق إيجابية المسلم فجنس فعل المأمورات أعظم من جنس ترك المنهيات وعليه فقد ظلت الهجرة تعمِّق هذا المعنى بغية انتصار الاسلام وأهله فلا سبيل لذلك إلّا بالعطاء والجود والذي ظهر بين ثنايا الهجرة من صاحبها عليه الصلاة والسلام وثاني اثنين وصبر المهاجرين وايثار الأنصار لتُسجِّلَ ملحمة العطاء الايجابي أروع الأمثلة بتعبيد الطريق لبوابات الرجاء والانتصار وحالنا اليوم يحتاج لتجديد ماكينات الفعل والعمل وتقوية الايجابية وترك السلبية والتراجع لمزيد من العطاء عقيدة وعبادة وأخلاقا وسلوكا وعدلا وسماحة وعلاقات وغيرها .
*٧/تحقيق معاني الهجرة* :
إنّ الهجرة سلوك واجب وشعيرة مستمرة ومتى ما أردنا أن نحقق النصر في حياتنا علينا أن نباشره ونمارسه على كل المستويات، وفي جميع الأوقات، عقيدة راسخة وعبودية مخلصة وأخلاقا حسنة وآدابا عالية وقيما رفيعة وعدالة في الأحكام والأقوال والعلاقات وغيرها ويجب أن نُحيها ونَحياها على طول الطريق رغم وعثائه وأشواكه فالهجرة هجر للمنكر مكانا وزمانا وأشخاصا ومناسبات
(المُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه) البخاري فإذا ما فعلت الأمة ذلك توّجتْ ببزوغ فجر النّصر .
*٨/المرأة في ركب النصر* :
لم تقتصر تراتيب الهجرة على الرّجال وإنّما شاركت النّساء مهاجرات في الهجرة الأولى والثانية للحبشة ثم إلى المدينة وها هنّ أولاء يَنلْنَ السَّبقَ في انجاح الهجرة النبوية فكانت مشاركة أمُّنا عائشة وأختها ذات النطاقين رضى الله عنهما وغير بعيد رواية ام معبد في وصفها الدقيق لصاحب الهجرة عليه سلام الله وصلواته وفي حديث الهجرة جاء :” لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟، قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا ” ابن هشام وابن كثير . وبالتالى فالمرأة دورها عظيم فى بناء قيم الدين والولاء لله وإسناد العمل الدّعوى والتّربوي وغيره وهو دور يتجدّد الاحتياج إليه اليوم ونحن نستعيد تلك الذّكرى العطرة ولا نصر إلّا بايجاد المرأة الصّالحة المصلحة التي تقوم بالرعاية والتّربية واسناد الأمّة بما تحتاج إليه تناسباً مع وظائفها والمطلوب منها شرعاً وقدراً .
*٩/الأسرة حصانة وحضانة :*
ظلّ الإسلام يؤسّس للأسرة ويرعى تكوينها ويحيطها بما يقوّيها باعتبارها حصانة وحضانة تحصّن الأفراد وتربّيهم وتحتضن الإسلام وترعى أهله من لدن بيت النبوة وجهود أم المومنين خديجة إلى دار الأرقم عند جبل الصَّفا إلى بيت الصديق أهم ركائز الهجرة النبوية فالبيت حاضن مهم عمد أعداء الملة لاخراجه من تأثيره وأثره ولذلك يتجدّد مع درس الهجرة العزم على إعادة البيت إلى سيرته ليفي بمطلوبات إعداد العدّة وارتياد آفاق النّصر تكاملا مع مؤسسات التربية وحواضن إعداد أجيال الاسلام .
*١٠/الموازنات سلاح الغلبة:*
متى ما غابت الشريعة من الحياة ازداد البلاء واختلطت الحسنات بالسيئات فكان من دروس الهجرة إِعمال الموازنات الشرعية فقد شهد العباس تراتيب الهجرة عند بيعة العقبة وهو على دين قومه كما قام الرسول صلى الله عليه وسلم باتخاذ خِرِّيتٍ مَاهرٍ عالمٍ بالطرق والمفاوز هو عبدالله بن أريقط الليثي وكان على دين قومه أيضا بيد أنه كان مأمونا ولهذا تحتاج الأمة إلى ذلك الفقه اختيارا لأعلى المصلحتين بتفويت أدناهما واجتنابا لأعلى المفسدتين باحتمال أدناهما والاجتهاد فيما بين ذلك عند التساوي وقد قال شيخ الاسلام”تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات»مجموع الفتاوى وقد جاءت الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتعطيلها وهو فقه واسع تحتاجه الأمة وقد اشتدّ عليها الضيق وقلّ الصّاحب وتكاثرت عليها السهام.
*١١/ إذا تعددت التحديات قويت الشوكة*:
كان انتقال الإسلام إلى حاضنته الجديدة والتي هي بيئة متمدنة قائمة على الزراعة والتجارة تتشكل من مزيج عالمي جاءها من العراق والشام واليمن وأنحاء الجزيرة العربية فإذا كانت العداوة في مكة خارجية ومن المشركين فقط فقد تضاعف التحدي بكيد اليهود تحالفا مع مشركين مكة وقد بدأ سوس المنافقين ينخر في جسد الإسلام من الداخل وعليه فإن تزايد التحديات والعداوة من شأنه أن يقوي جسد الأمة ويزيد من المناعة ويتيخ المزيد من تقوية الصفّ وبناء الداخل لاحتمال المزيد مما يتآمر به الأعداء ولهذا فكلما أوقدوا نار العداوة قوي الجسد بمزيد من المناعة والصلابة فيستا من درس الهجرة اهمية بناء القيم وترسيخ معالم العقيدة لاكتساب القوة وزيادة الصلابة لاحتمال الصدمات فما من نصر إلّا ويسبقه صبر واحتمال
 ١٢/ *نوافذ الأمل مشرعة* :
ففي درس الهجرة والنّبي عليه الصلاة والسلام محاصر وطريد كان يرى بريق الأمل مُرفرفاً أمام ناظريه وعليه فإنّه لا يمنعن مانعٌ عبداً من أن يصل إلى مراده لأنه متعلّق بربّه يحيط به أمله وقد جاء فى مراسيل الحسن رحمه الله قوله لسراقة بن مالك رضى الله عنه:(كيف بك إذا لبست سواري كسرى ) وعليه ومهما تكالبت علينا العداوات وازدادت السهام فسيظلّ يحدونا أمل كبير بقرب النّصر ودحر الأعداء وهزيمة المعتدين الغاصبين المتمردين النهّابين فلنعتصم بعقيدتنا وديننا وقيمنا وأن نتحرر من المناطقية ومفاسدها والعنصرية وقبائحها فما أعظم حاجتنا لمثل هذه الدروس العطرة من ذكرى الهجرة النبوية المطهرة.
وصلّى الله وسلّم على نبيٍّنا محمّد و آله وصحبه أجمعين.

أحمد حامد الجبراوى
الدّوحة
٢٩ ذوالحجة ١٤٤٥هـ

 

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق