ياسر الفادني يكتب في من اعلى المنصة: ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت … إن الكلاب طويلة الأعمار!

من أعلي المنصة
ياسر الفادني
ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت … إن الكلاب طويلة الأعمار!
البيت أعلاه لشاعر عربي قديم يهجو غريمه، بعد طول معارك شعرية كانت تهتز لها أندية العرب وتلهب صدور السامعين، كان الهجاء في تلك الأيام سيفًا أقطع من السيوف، يطارد المهجو في كل مجلس ويلاحقه في ذاكرات الناس حتى الموت، ومع ذلك، كان جرير يرى أن بعض خصومه، كأنهم لا يموتون أبدًا، يطول بهم العمر رغم ما في أعناقهم من سوء السمعة وضراوة اللعنات، فشبّههم بالكلاب في طول أعمارها وقبح سيرتها
وهذا البيت، بعد أكثر من ألف عام، يخرج من رماد الشعر الجاهلي ليقف شامخًا في وجه قيادات المليشيا، أولئك الذين ظل الشعب السوداني يهجوهم منذ سنوات، يهزأ منهم في الأهازيج، يسخر من خطاباتهم المتلعثمة، ومن فسادهم المكشوف، ومن دمويتهم التي فاقت كل تصور،
هجاء متصل لا ينقطع، لكنه لا يقتلهم! كأنهم محصّنون ضد الخجل، ضد الضمير، ضد حكم التاريخ، يعيشون ويتطاولون كأنهم الكلاب التي طال بها العمر بلا بركة
أي عار أكبر من أن يظل إسمك على ألسنة الناس مقرونًا باللعنات؟! أي حياة أثقل من أن تكون حاضرًا جسدًا وغائبًا كرامةً وذكرًا؟! إن هؤلاء القادة لم يتركوا للناس ما يذكرونهم به بخير، سوى أنهم جرحٌ مفتوح في خاصرة الوطن، هجاؤهم بات جزءًا من الذاكرة الجمعية للسودانيين: في المجالس، في الأسواق، في منشورات التواصل، حتى في الأغاني الشعبية الساخرة
ولقد قتلكم هذا الشعب بالهجاء فلم تمتوا … لأن الكلاب طويلة الأعمار! أنتم الأحياء-الأموات، تمشون على الأرض بوجوه فقدت الحياء، وتتناقل الأجيال هجاءكم كما تتناقل وصايا الأجداد، سيبقى الهجاء وصمة لا تفارقكم، وسيظل السودان يتنفس السخرية منكم كما يتنفس الهواء
فلتطُل أعماركم إن شئتم، فما قيمة عمر يلاحقه الهجاء أينما سار؟! وما جدوى حياة إذا كان كل ذكرها لعنة، وكل سطر في تاريخها هجاء؟!.