رأي

ياسر الفادني يكتب في من اعلى المنصة: هدنة معطونة بالفشل !!

من أعلي المنصة

ياسر الفادني

هدنة معطونة بالفشل !!

لم نعد نؤمن بكلمات تُلقى من أفواهٍ دموية، ولا نصدق توقيعاً يُرسم بمداد الخيانة على ظهر جثث أبرياء، عندما يكون القاتل حراً في ضميره، والجلاد ينام قرير العين بعد أن يأمر بحفر قبور من وهبوا له وطنهم، فلا هدنة تُبدّل شيئاً ولا وعد يُعيد للناس كرامتهم، هذه ليست مجرد كلمات مبالغة، بل هي واقع مرير: هدنة تُعلَن لتُستخدم كغطاء ينفخ المليشيا صدرها ويمنحها فسحة زمنية لترتيب صفوفها، لتجديد ذخائرها، ولإدخال مرتزقة وعربات ومؤن تحت سمع العالم وبصره

كيف لنا أن نثق بمن جعلوا من الخراب فناً ومن التقتيل مهنة؟ من علموا أولادنا على الكراهية، وعلّموا نساءنا الخوف، وتركوا الشوارع لاهتزاز الرصاص والليل يبتلع الضحايا؟ من يسرق قوت الناس ويبدده في شراء ولاءات مرتزقة لا تعرف إلا البندقية؟ ثقة المواطن تُبنى على الأمان والعدالة لا على ادّعاءات رقيقة تُقال أمام العدسات ثم تُنسى عند أول طلقة، من يقتلع حياة إنسان بلا ذنب لا يستحق أن يُمنح فرصة لإصلاح نفسه أو أن يُعامل كطرف شريك في هدنة شريفة

الهدنة المزيفة تجعل من السلام لعبة انتهازية، فرصة للمليشيا كي تكسب مزيداً من الوقت لتعيد نشر نفسها في المناطق المهمة، لتفتح طرق الإمداد التي تحوي العتاد والمال والبشر الذين سيرتكبون المزيد من الجرائم، أما الذين يكتبون عن هدنة لثلاثة أشهر فيدفنون تلك الكلمات في ماءٍ جارٍ، توقعه لا يثبت، لأن لا شيء يردع من ذاق لذة القتل أو الربح من خراب بلد إن وصف من يتاجرون بدمار الوطن باسم قادة هو مجاملة لا تنطفئ إلا بضوء العدالة، والعدالة هنا لا تنتظر تفاهمات سطحية بل محاسبة حقيقية

لا تطلبوا منا أن نصمت أو نؤمن بهدنة ترتكز على أحاديث يمكن قلبها في أي لحظة ، الأمن لا يُوجود بالكلام، والأمان لا يُبنَى على تصالحات مشبوهة، المواطن يريد النوم بلا خوف، يريد أن يزرع أرضه دون أن يخشى نهب محصوله، يريد أن يعبث أبناؤه بلا قوائم اختفاء، يريد أن تعود المدرسة مدرسة لا مرتكزاً لجرائمٍ وانتهاكات، هذه الأمور لا تُقرّ إلا عبر تطبيق القانون، وجذور السلام الحقيقية تبدأ من محاسبة من دمروا البنى التحتية، ومن سمّموا العلاقات، ومن جعلوا من الاغتصاب والسبي دروساً تُدرَّس في ثناياهم البغيضة

ليس هناك مصلحة وطنية في من يمنحون الدم غطاءً سياسياً، من نهبوا أموال الشعب يجب أن يُنزع عنهم القداسة التي يدّعونها، الذي أكل مال السحت ارتزاقاً من أجل تدمير بلده لا خير فيه، ولا يجوز أن يُمنح مدَّة لتنفيذ أجندته باسم السلام، لا سلام مع من يملأون جيوبهم بأموال الفساد ثم يلبسون ثوب الوساطة حين تستجديهم الحاجة، إنهم يلوكون شعارات السلام كما يلوكون كلماتٍ على ماءٍ جارٍ؛ لا أثر ثابت لها، لا بقايا ثقة يمكن البناء عليها.

أقولها بصراحة: إن هدنة لا تصاحبها آليات رقابة صارمة، لا تضع شروطاً واضحة لانسحاب المليشيات من المدن، لا توفر مراقبين مستقلين قادرين على التأكد من وقف الإمداد والتمويل، فهي مجرد مسرحية. والمسرحيات تُغفل المأساة الحقيقية: أبناء يُقتلون، أسر تتقاطر إلى خيام اللجوء، مدن تُفقد أنفاسها، وذاكرة وطن تُمزق قطعاً، كيف نزاوج بين هذا الخراب وإعلان الهدنة وكأن شيئاً لم يحدث؟

نحن لسنا ضد السلام؛ بل نؤمن به تمام الإيمان، لكن السلام لا يُبنى على فرضيات، ولا يتأتى عبر مجاملات تُسدّ بها أفواه المطالبين بالحق، السلام يحتاج إرادة حقيقية، إصلاح مؤسسات تُحكم بالقانون، محاسبة بصيص العدالة لكل من شارك في إراقة الدماء أو تبادل الإتاوات مع قاتلين، لا سلام بلا عدالة، ولا هدنة بلا أمان حقيقي للمواطن وإلا فكل توقيع هو مجرد توقيع على استمرار الجريمة بتواطؤ دولي أو محلي

في الختام: لا تبيعوا كرامتنا بكلمات رنانة ولا تقنعونا بأن هدنة دون شروط صارمة ستكون نعمة، من أعلي المنصة أقولها بصوتٍ لا يقبل المهادنة: إن أي هدنة تُستخدم وسيلةً لإعادة الترتيب للمجرمين هي هَدنة معطونة بالفشل، والسلام الذي نطمح إليه ليس ذلك الذي يوقّعه قاتل على ورقة؛ إنه سلام يوقّعه الوطن حين تعود إليه حريته، وكرامته، وعدالته.

أحمد حسين محمد

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى